دراسات وأبحاث

روبرت فيسك:كيف يمكننا إطفاء آلة الحرب الأهلية؟ بالاعتذارات؟ بالاعترافات؟ أم بمرور الزمن ؟

|| Midline-news || – الوسط … 
نشرت صحيفة «الإندبندنت» مقالًا كتبه الصحافي الشهير روبرت فيسك يتحدث فيه حول الحرب  الدائرة في سورية ويسلط الضوء على تجارب دول أخرى مرت بحروب مشابهه أو حروب أهلية ، وكيف اجتازتها، وما هو الطريق لإنهاء هذه الحرب التي مزقت سورية من الداخل.

يقول فيسك في بداية مقاله: عندما استعادت قوات الحكومة السورية قرية دير حافر الصغيرة لأول مرة من «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» في عام 2017 عثروا على «محكمة» إسلامية مطلية باللون الأسود ويبدو أن من كانوا بها قد هجروها على عجل تاركين خلفهم أكوامًا من الوثائق. تحتوي مئات الصفحات تلك على أدلة مروعة على كيفية تصرف المدنيين السوريين هناك خلال ثلاث سنوات على الأقل من احتلال (داعش).

يحكي فيسك كيف وصل إلى القرية برفقة الجيش السوري بعد أن قصفت الطائرات الروسية قوات (داعش) – كان الداعشيون مستمرين في إطلاق القذائف أثناء تراجعهم؛ مما أدى إلى مقتل قائد سوري كبير – ووصلوا إلى مبنى المحكمة الشرعية المحلية، وهو عبارة عن مبنى خرساني محصن بجانب ثلاثة قضبان سوداء اللون مصنوعة من الحديد الصلب موضوعة على منصة على جانب الطريق.

لكن القصة الحقيقية لدير حافر كانت في الأوراق المتناثرة على أرضية المحكمة.

يقول فيسك: كان القضاة مصريون، وقد امتدت ولايتهم القضائية إلى «عاصمة» (داعش) في سوريا مدينة الرقة. كشفت الوثائق أن أهل القرية قد استخدموا «العدالة» الإسلامية للوشاية بجيرانهم، في إحدى الحالات قام أشخاص بالإبلاغ عن أن أبناء عمومتهم جواسيس، وفي حالة أخرى اتهم شاب بمقابلة حبيبته سرًا بينما كان من المفترض أن يصلي. واتهم جيران آخرون بعضهم البعض بالسرقة، بينما قام رجل من المفترض أنه يجمع الأموال لشراء مولد كهربائي بأخذ النقود لنفسه. كذلك تم تسليم عميل محتمل – للحكومة السورية على الأرجح – لكي يخضع لـ«العدالة» من قبل «محكمة الشرطة الإسلامية».

ذكر فيسك أن أسماء شهود الادعاء والمدعى عليهم وأحيانًا أسماء حراسهم «الداعشيين» مذكورة بدقة في هذه الأرشيفات.

وأضاف أنه لم يكن من المفاجئ له بعد ساعة من وصوله إلى مئات الوثائق الموجودة على أرضية «المحكمة» وصول مجموعة كبيرة من المواطنين المبتسمين ابتسامات زائفة من 27 قرية حول دير حافر عبر الطريق الرئيس للقرية مرتدين أردية بنية طويلة باحثين عن ضباط الجيش السوري. أحضر هؤلاء المواطنون معهم عريضة جماعية موقعة من مخاتير  وزعماء القرى لطلب «المصالحة» مع الحكومة السورية. لم يهتم الضباط السوريون بالأمر، وقبلوا العريضة بلا مبالاة وأخبروا الرجال الآسفين مطأطئي الرؤوس أن يتواصلوا مع السلطات في حلب ودمشق إذا كانوا يرغبون بالحصول على العفو.

فهم الجانبان الواقع – يقول فيسك – عندما يحتل وطنك جيش آخر – عندما تكون قريتك مُحتلة من قبل إحدى القوى المتناحرة – فإنه يجب عليك مؤازرتهم من أجل البقاء على قيد الحياة، أو على الأقل التعاون معهم.

لقد أصبح النظام السوري بعد أن انتصر في حربه فعليًا غارقًا في «لجان المصالحة» التي يطمع القرويون حول دير حافر بالحصول على رحمتها بلا شك. إلا أن إنهاء الحروب شيء، وإنهاء الحرب الأهلية التي يعارض فيها الشعب حكومته أو يعارض بعضه البعض شيء مختلف تمامًا. وإذا لم تكن هناك مصالحة أو حل فعندها يجب علينا الاستعداد للفصل اللاحق من الصراع ذاته.

ماذا تخبرنا الحرب الأهلية في يوغسلافيا عن المصالحة؟

لنأخذ يوغسلافيا كمثال. يقول فيسك: «جميعًا نعلم أن الحرب الأهلية التي حدثت في التسعينات كان لها سوابق تاريخية. كدليل على ذلك اقرأ كتاب جسر على نهر درينا للكاتب اليوغسلافي إيفو أندريتش الحاصل على جائزة نوبل. لكن المجازر الوحشية الحقيقية في الحرب الأهلية في يوغوسلافيا والتي شكلت حجر الأساس للصراع العرقي الذي بدأ في عام 1991 وقعت في الحرب العالمية الثانية، عندما أدى الغزو الألماني إلى إنتاج دولة كرواتيا الفاشية التي كانت معسكراتها للإبادة – للصرب واليهود والمسلمين اليوغسلافيين – أبشع في بعض الأحيان من معسكرات النازيين». لقد كان معسكر يسنوفتش يحتوي على غرفة للإعدام بالغاز، كما أنه كان يحتوي على فرق من قوات الأوستاشي المدربة على إعدام ضحاياها بالسكاكين والمناشير على غرار تنظيم (داعش).

يروي فيسك الوقائع التاريخية، فيقول: انقسمت المقاومة المناهضة للألمان إلى حركة الشيتنيك الملكية الصربية وحركة البارتيزان الشيوعية، وسرعان ما تعاونت الأولى مع المحتلين الألمان والإيطاليين ضد الشيوعيين، بينما تعاونت الثانية مع الحلفاء والروس ضد النازيين والإيطاليين والشيتنيك. في النزاع البوسني في التسعينات تم سجن مجرمي الحرب في كثير من الأحيان بناءً على إفادات شهود عيان، ونادرًا ما تم ذلك بناءً على أدلة ورقية.

يستطرد فيسك: لكن الحرب الأهلية اليوغسلافية كانت مليئة بالأوامر المكتوبة وتقارير عن الفظائع موقعة من قبل الجناة. لم يبد البارتيزان التابعون لتيتو أي رحمة بأعدائهم الصرب أو الكروات أو المسلمين بعد التحرير. وهكذا عندما خضع زعيم حركة الشيتنيك الصربية دراجوليوب درازا ميهايلوفيتش لمحاكمة قد تودي بحياته في بلجراد عام 1946 أخرج الشيوعيون سجلاته العسكرية المتعلقة بالحرب من أجل إدانته.

كان هناك العديد من الروايات المثيرة للاهتمام حول التعاون الأولي لبريطانيا مع ميهايلوفيتش – أدرك تشرشل لاحقًا أن تيتو كان أكثر كفاءة في قتل الألمان – ولكن تم نشر الإجراءات الرسمية للمحكمة دوليًا لأنها تضمنت الكثير من المواد الوثائقية؛ وهناك نسخة أصلية باللغة الإنجليزية نشرتها السلطات الشيوعية في بلجراد عام 1946. وهنا على سبيل المثال الوثيقة 370 التي تحتوي على تقرير من نهر درينا في البوسنة إلى ميهايلوفيتش من أحد مساعديه يُدعى بافل ديوريسيتش:

«وصلت كتائبنا إلى درينا خلال الليل.. ثم بدأت عملية تطهير الأراضي المحررة.. تم إحراق جميع القرى المسلمة بشكل تام، بحيث لم يبق أي منزل من منازلهم.. لقد قمنا أثناء العمليات بإبادة السكان المسلمين إبادة تامة بغض النظر عن الجنس أو العمر.. فقدنا ما مجموعه 22 شخصًا.. من بين المسلمين كان هناك 1200 مقاتل، وما يقرب من 8 آلاف ضحية أخرى: نساء، وكبار سن، وأطفال.. كانت معنويات وحداتنا عالية جدًا، وأظهرت بعض الوحدات مع قادتها بسالة منقطعة النظير في جميع المواقف، وهي تستحق على ذلك كل الثناء».

هذا التقرير يمكن أن يشبه تقريرًا صربيًا من البوسنة في عام 1992. لم يكن من المفاجئ أن يكون رد ميهايلوفيتش على ذلك أنه «لم يتوقع أبدًا» أن يقوم بافل ديوريسيتش «بتوضيح الأمر بهذه الطريقة». كانت هذه بالطبع محاكمة المنتصرين للمنهزمين، ونادرًا ما تم استخدام قوانين نورمبرغ في بلغراد الشيوعية في فترة ما بعد الحرب، لكن ميهايلوفيتش كان مصيره الهلاك بسبب الآثار الورقية التي خلفتها قواته. ولكونه عدوًا لتيتو – وهذه هي خطيئته الحقيقية- فقد تم إعدامه في 17 تموز عام 1946.

لكن كل ما فعله تيتو لتخفيف جرائم الحرب تلك – بما في ذلك الجرائم التي ارتكبها البارتيزان التابعون له، والذين ألقوا الرجال والنساء والأطفال الكروات في حفر الموت بعد أن سُلّموا لهم من قبل البريطانيين في نهاية الحرب – كان بهدف جعل يوغوسلافيا تحت ستار الديكتاتورية الشيوعية.

لم يجر إخماد النيران تمامًا، بقيت النيران تحت الرماد لتعود للاشتعال بعد أقل من نصف قرن. ثم وجدنا مرة أخرى أن الشيتنيك الصرب يتقدمون إلى وادي درينا للقضاء على المسلمين، في نفس القرى التي قام فيها رجال ميهايلوفيتش بـ«إبادتها» بـ«بسالة» خلال الحرب العالمية الثانية.

إن قتل قادة الجانب الخاسر في الحرب الأهلية يمثل هدنة لوقف إطلاق النار في نزاع عرقي، وليس نهاية حاسمة. هذا يشبه وضع الصراع في صندوق ثلج، لكن عند لحظة معينة ينصهر هذا الثلج وتعود كائنات الماضي للكفاح من أجل الحياة. قبل بدء حروب عام 1991 بدأ الصرب والكروات في فتح المقابر الجماعية الخاصة بالحرب العالمية الثانية. «لماذا فعلوا ذلك؟» هكذا سألت روبرت المترجمة الصربية المسنة التي تعمل معه، وأجابها «لكي يحمسوا أنفسهم بأقصى درجة ممكنة».

أشباح الحرب الأهلية في لبنان

لقد كافح اللبنانيون مع نفس هذه الأشباح منذ انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت لمدة 15 عامًا – بمساعدة من مجموعة من الدول الغربية وإسرائيل وسورية – في عام 1990. وقد أعفت قوانين ما بعد الحرب والتي صدرت عام 1991 عن كل الزعماء السياسيين اللبنانيين وقتلهم لعشرات الآلاف من ضحايا الحرب من الرجال والنساء والأطفال، وقد شمل ذلك العفو رجال الميليشيات المسيحية الذين ذبحوا في عام 1982 ما يقرب من 1700 لاجئ فلسطيني في صبرا وشاتيلا تحت أعين القوات الإسرائيلية.

أضاف فيسك: إنه لا يزال هناك حوالي 18 ألف لبناني لا نعرف عنهم سوى أنهم «اختفوا» – ربما في المقابر الجماعية التي حفرها كل من المسلمين والمسيحيين أو في السجون السورية. ولا زالت عشرات الآلاف من العائلات اللبنانية تعتبر أن أحباءهم «أحياء» حتى اليوم وتطالب بأدلة عما حدث لهم ومواقع رفاتهم. تواصل صحيفة «لوريون لوجور» اللبنانية المسيحية الناطقة بالفرنسية تذكر هذه الأرواح المفقودة – والميتة على الأرجح – بشجاعة من خلال السماح لهم بالتحدث عن أنفسهم – بشكل خيالي – في سلسلة منتظمة بعنوان «إبقاء الأمل (Keeping Hope)». وهنا تتحدث ريا داوري وهي أرملة عمرها 30 عامًا، وأم لطفلين – عبير البالغة من العمر سنوات ونسرين البالغة من العمر خمس سنوات – تتحدث في طليعة الصحيفة الصادرة يوم 22 آذار 2017 أي بعد حوالي 40 عامًا من «اختفائها» قائلةً:

«كنت في طريقي إلى سوق الغرب من أجل تسجيل عبير ونسرين في المدرسة عندما تم اختطافي مع أربعة ركاب آخرين عند نقطة تفتيش عند متحف بيروت. كان يونس، وسامية، ومنى، وحنان، طلابًا شبابًا عائدين إلى سورية… لقد اختفينا جميعًا. أُطلق سراح سائقنا فقط، وقد كان هو من حمل ذلك الخبر السيئ إلى عائلاتنا… لا تدعوا قصتي تنتهي هما». هذه الكلمات خيالية بالطبع، لكنها تمثل بالتأكيد ما كانت ريا لتقوله لو كانت تستطيع الحديث إلينا الآن.

نظرًا لكون اللبنانيين شعبًا ذكيًا عميق التفكير – بحسب فيسك – فإنهم كثيرًا ما يتساءلون عن مشاعرهم، سائلين أنفسهم كيف يمكن لمثل هؤلاء الموهوبين والأذكياء – بالمعنى الحرفي للكلمة – في مثل تلك المجتمعات المتعلمة أن ينتجوا أعمالًا بهذا القدر من الوحشية.

لقد درس الأكاديمي والمؤرخ اللبناني فواز الطرابلسي الصراعات الأهلية في كل من الأدب والفن – في أعمال الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط الذي عارض الظلم والديكتاتوريين، وفي أعمال بيكاسو وكارافاجيو، وفي أعمال المخرج البوسني أديمي كينوفيتش (والذي تم إعداد فيلمه The Perfect Circle أثناء حصار سراييفو في التسعينات). اكتشف الطرابلسي تداخلًا مستمرًا بين شخصيات الجلادين والضحايا، وقد نقل عن وليد جنبلاط الزعيم الدرزي اللبناني – والسياسي المفكر الكبير الوحيد في لبنان – قوله خلال الحرب الأهلية في عام 1986: إن «العدو موجود الآن داخل كل واحد منا».

أما عن لوحة داود ورأس جالوت لكارفاجيو، فقد قال الطرابلسي في مقابلة أجريت معه قبل عامين: «إن الرسام قد أعطى ملامحه الجسدية الخاصة لرأس جالوت المقطوعة». كما أنه يقول عن لوحة غرنيكا: «إن تجسيد بيكاسو للقصف الألماني على مدينة الباسك في عام 1937 يقر بالقاتل في جسد الضحية». يرى الطرابلسي أن الرسم والمسرح والسينما أكثر قدرة على التعبير عن «جوهر الحرب الأهلية» مقارنة بالتحليلات السياسية أو التاريخية.

لقد بدأ دراسته للحرب اللبنانية من خلال البحث في الحرب الأهلية الإسبانية – غير مدرك في ذلك الوقت للحجج الوضيعة لإبقاء الديكتاتور فرانكو في وادي الشهداء الرهيب – وأشار إلى عدد الفنانين الذين ألهمتهم لوحة غرنيكا لتمثيل فظائع العنف في العراق، والجزائر، ولبنان، وفلسطين.

يقول الطرابلسي: «لكنني سألت نفسي أيضًا ما إذا كانت لوح غرنيكا لا تزال قادرة على التعبير عن رجس حروب القرن الحادي والعشرين». على الرغم من قلة من يقدرون تلك الحقيقة، إلا أنها كانت إحدى أوائل الأعمال الفنية التي تصور نتيجة القصف الجوي.

من سيحاكم القتلة في الحرب السورية؟

يخطط كثير من اللاجئين السوريين لمحاكمة الرئيس بشار الأسد  بتهمة ارتكاب جرائم حرب، معتمدين على سابقة سعي مسلمي الروهينجا لمحاولة جعل المحكمة الجنائية الدولية تحاكم قادة ميانمار بتهمة الاضطهاد.

إلا أن الإدارة الأمريكية أعلنت من قبل أنها سترفض منح تأشيرات لمحامي المحكمة الجنائية الدولية الذين يحققون في جرائم الحرب التي ارتكبها الأمريكيون في أفغانستان أو العراق، وهذا يشمل محاولات توجيه الاتهام إلى الإسرائيليين أو التحقيق معهم. إذا كان هذا يدل على مدى تحالف واشنطن وإسرائيل الوثيق للدفاع عن مذابح إسرائيل في غزة، فإنه يوضح أيضًا العدد الكبير للإسرائيليين الذين يحملون الجنسية الأمريكية. لكن كيف يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم الحرب العربية، بالرغم من فشلها في التحقيق بالجرائم التي يُزعم أنها قد ارتُكبت من القوات العسكرية الغربية.

سعت محكمة لاهاي لجرائم الحرب إلى تقديم العدالة لضحايا الحروب اليوغوسلافية خلال فترة التسعينات. وجرى سجن مجرمي الحرب الذين قاموا في كثير من الأحيان بقتل أنفسهم في السجن. ومع ذلك فإن الكراهية والفساد – الذين كثيرًا ما يجتمعان معًا – في البوسنة، وصربيا، وكوسوفو في الوقت الحالي لا يُشيران إلى أن «العدالة» الدولية تنهي الحروب.

يقول الكاتب: إنه بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أن الدول نفسها يجب أن تحاكم وحوشها – كما فعلت يوغوسلافيا في عام 1946 – فلينظروا إلى ما حدث عندما طالبت مجموعة من الناشطين اللبنانيين المستقلين في عام 2011 بإلغاء قانون العفو الصادر عام 1991 ودعت إلى «محاكمة مجرمي الحرب اللبنانيين» حتى لو هذا يعني تقديمهم إلى العدالة أمام المحاكم الأوروبية.

وأضاف: تلقت صفحة المجموعة على موقع «فيسبوك» على الفور تهديدات من قادة كل الأحزاب السياسية اللبنانية تقريبًا – مما يوضح لنا من هم «المجرمون» المزعومون – إلا أنهم تلقوا دعمًا من منظمة «هيومان رايتس ووتش» التي تحدثت عن «ثقافة الإفلات من العقاب» التي أنتجها قانون العفو اللبناني وفشلها في تضميد جراح الحرب الأهلية.

اقترح البعض أن المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في لبنان يجب أن يتم «عزلهم» عن جماعاتهم، وأن يتم إجبارهم على دفع تعويضات مالية لضحاياهم.

بعد كل احتلال تصبح «العدالة» ضرورة واستحالة.. تجربة أيرلندا

أعطى شارل ديجول الفرنسيين فترة راحة قصيرة من قانون «التطهير» الذي أصدروه بعد التحرير، إذ تعرض من خلاله الآلاف من أتباع بيتان والآلاف من المتعاونين الأبرياء نسبيًا والكثير من الأشخاص الأبرياء كليًا، والذين استهدفهم خصومهم لأغراض شخصية؛ للإعدام أو إطلاق النار عليهم، أو الذبح، أو الدفن أحياء في مقابر جماعية.

ويضيف فيسك: لقد عبر ديجول عن حزنه عندما كان يقرأ كل ليلة عن اتهامات قضائية بالتعاون مع الأعداء وجرائم الحرب التي يُفترض أنها قد ارتُكبت من قبل مواطنين فرنسيين وتقرير من يجب أن يُعدم رميًا بالرصاص ومن يجب أن يكتفوا بتجريده من حقوقه المدنية. لقد سمح ديجول بإعدام لافال، لكنه عفا عن بيتان المسن الذي سمى ابنه على اسمه لاحقًا.

يقول الكاتب: لكننا عندما نقف بجانب القتلة والضحايا فإننا نواجه مشاعر أخرى: الحاجة إلى الانتقام والرغبة في المصالحة، والافتراض بأنه لا يمكن سوى لعقود من الزمان أن تعالج الأعمال الوحشية والسادية. يبدو أن الصراع الأهلي – شأنه شأن جميع النزاعات الأخوية – ينطوي على نوع خاص من الوحشية يغفر فيه الضحايا – إذا أمكن التعرف على كلماتهم الأخيرة – أحيانًا لأولئك الذين يوشكون على تدمير حياتهم.

ذكر فيسك أنه في ذكرى مرور 100 سنة في أيرلندا على ثورة عام 1916 ومفاوضات المعاهدة مع بريطانيا، ثم الحرب الأهلية، كشفت السلطات الأيرلندية النقاب عن آلاف استحقاقات المعاشات للتقاعد عن الخدمة العسكرية بين عامي 1916 و1923، من الثورة إلى الحرب الأهلية التي نشبت بين الأيرلنديين الذين قبلوا معاهدة الحرية الشكلية التي أبقت 26 مقاطعة من أيرلندا داخل الإمبراطورية البريطانية وأولئك الذين اعتبروا أن قسم الولاء للتاج بمثابة خيانة سياسية.

تجمع في مدينة أوماه في آب الماضي للاحتفال بالذكرى العشرين لتفجير سيارة الجيش الجمهوري الأيرلندي الحقيقي الذي أسفر عن مقتل 29 شخصًا. الصراع الذي كان يبدو مستبعدًا من الممكن أن يشتعل مرة أخرى بواسطة السياسيين البريطانيين الطائشين.

من بين الملفات التي رُفع النقاب عنها في المحفوظات العسكرية في دبلن يمكننا أن نجد بعضًا من أحزن وأشجع قصص الحرب الأهلية. ومثال على ذلك آخر رسالة كتبها مفتش المصايد جيمس كين إلى عائلته، وهو رقيب سابق في الشرطة الملكية الأيرلندية التي تقودها بريطانيا والذي حُكم عليه بالإعدام من قبل زملائه الأيرلنديين بتهمة «التجسس» في عام 1921. كتب كين: «أبنائي الأعزاء، لقد حُكم علي بالموت. رأيت القسيس اليوم والحمد لله. إنني أعطيكم مباركتي وأدعو الله أن يحميكم جميعًا. صلوا من أجلي وادعوا لي».

ثم يسرد كين بعناية فائقة كل النفقات التي يمكن لعائلته الحصول عليها من الجيران الذين يدينون لهم بالمال، ويقترح عليهم بيع منزلهم وشراء «كوخ جيد». ثم يختتم كين حديثه بهذه الكلمات التي قد تجعل القارئ يذرف الدموع: «لا تنفقوا الكثير من المال على جنازتي ولا تقيموا لي أي مراسم. لقد حصلت على عطف لا يُضاهى من الرجال الذين كانوا مسؤولين عني. والآن أقول لكم وداعًا وبارك الله فيكم وبارك في أيرلندا. صلوا من أجلي باستمرار وأخبروا جميع أصدقائي أنني أحبهم واشكروهم على لطفهم معي. وداعًا أطفالي الأعزاء، من أبيكم المحب لكم. جيمس كين. ادفنوني بالقرب من زوجتي الحبيبة إذا أمكن ذلك».

يقول فيسك: هنا نرى رجلًا لم ير في الذين سيقتلونه سوى أنهم أشخاص محسنون، أولئك الذين أظهروا له «عطفًا لا يُضاهى». تم إعدام جيمس رميًا بالرصاص في 16 يونيو (حزيران) عام 1921 في مدينة شاناكول بمقاطعة ووترفورد.

ويستعرض الكاتب خطاب من الحرب الأهلية من جنرال سابق في الجيش الأيرلندي من الجانب المؤيد للمعاهدة يهدف للحصول على معاش في عام 1929 لوالدة العميد جورج آدمسون، وهو ضابط طبيب وطبيب أسنان حاول في عام 1922 منع جنوده من التمرد ضد الحكومة الأيرلندية. كتب الجنرال قائلًا: «كان بقية ضباط اللواء الذين تحولوا إلى قوات غير نظامية يعتبرون آدمسون خائنًا خذلهم.. وبعد ذلك تم اغتياله في شوارع مدينة أثلون». وذكر أيضًا ما كتبه جيمس مارون الذي شارك في غارة انتقامية على شرطة أولستر الخاصة في مدينة نيوري عام 1920:

«كانت الأوامر الموجهة إلينا تنص على حرق كل منزل وإطلاق النار على كل ذكر نراه. أحرقنا 12 منزلًا وسويناها بالأرض، وقتلنا بالرصاص ثمانية من شرطة أولستر الخاصة. لكن هناك جزءًا مؤسفًا وهو أننا أطلقنا النار على امرأة (عن طريق الخطأ) وأرديناها قتيلة، وهي ربة أسرة كبيرة. لقد أثار ذلك أعصابي وجعلني لا أتوقف عن التفكير.. لم أستطع النوم لفترة طويلة أفكر في المرأة والآخرين الذين أطلقنا عليهم النار».

يقول فيسك: لم يستعد مارون صحته قط. في الواقع فإن العديد من الأيرلنديين الذين حاربوا في حرب الاستقلال والصراع الأهلي الذي أعقبها يظهرون في وثائق معاشات التقاعد كمرضى أو مهاجرين إلى الولايات المتحدة، وهذا أمر حزين يبين الضائقة الاقتصادية لأيرلندا ما بعد الاستقلال.

يتذكر فيسك جيدًا خلال سنواته الأولى من العمل مراسلًا في أيرلندا أنه قابل بعض أفراد الجيش الجمهوري الأيرلندي القديم الذي قاتل بريطانيا، ثم قاتل أفراده بعضهم بعضًا. كانوا يتحدثون دائمًا بفخر عن معاركهم ضد التاج البريطاني وبحزن عميق عن الحرب التي تلت ذلك. قد تسامح العائلات المحتلين البريطانيين السابقين، لكن من الصعب للغاية التسامح بشأن شخص قُتل برصاص جيرانه.

حتى أوائل السبعينات – أي بعد نصف قرن من الحرب الأهلية الأيرلندية – عثرت على عائلات أيرلندية تعرف أسماء الأيرلنديين الذي قاموا بقتل آبائهم أو إخوانهم. لقد قام الجانب المنتصر – أولئك الذين قدموا يمين الولاء المستمر للملك البريطاني – بقتل بعض سجنائهم الأيرلنديين، وفي أحد الأعمال الفظيعة تم ربط بعض أفراد «القوات غير النظامية» معًا وتفجير لغم بهم.

قوانين ما بعد الحروب الأهلية.. كيف تتعافى المجتمعات؟

من المقبول أن نقول إن هذه الحرب قد انتهت تمامًا – يقول فيسك – وقد يستغرق الأمر 100 عام كي تنتهي الحرب الأهلية. بحلول ذلك الوقت يكون المذنبون قد ماتوا والضحايا قد تجاوزوا العمر الذي كانوا ليموتوا فيه لأسباب طبيعية. إذا انتصر أحد الأطراف فسنجد أن «أمراء الحرب» – على حد تعبير منظمة لبنانية غير حكومية – يبقون في الحكومة لعقود، وبالتالي فهم يتمتعون بالحماية.

يوضح فيسك أن قانون العفو اللبناني لعام 1991 لا يعفي أولئك الذين قتلوا أو حاولوا قتل «شخصيات دينية، أو زعماء سياسيين، أو دبلوماسيين عرب، أو أجانب». وفي حالة ازدرائنا نحن البريطانيون لفكرة العفو فلنتذكر أن الإنجليز في القرن السابع عشر قد أنهوا الحرب الأهلية بعد الاسترداد بـ«قانون التعويض والنسيان» في عام 1660.

أمر مشابه حدث في الجزائر؛ إذ صدر قانون عفو آخر بعد حمام الدم في الفترة بين عامي 1992 و1998 الذي بلغ ضحاياه حوالي 250 ألف قتيل. كان من المفترض أن يعفو هذا القانون عن أفراد الجماعات المسلحة الذين لم يرتكبوا المذابح أو الاغتصاب أو العصيان، إلا أنه عفا تمامًا عن كل حالات التعذيب والجرائم التي ارتكبتها الميليشيات الحكومية الهمجية وجماعات الجيش التي حاربت الجيش خلال الصراع. وعلاوة على ذلك تم منع أي نقاش حول الجرائم والانتهاكات المريعة التي ارتُكبت خلال حمام الدم ذلك.

لن يكون مفاجئًا معرفة أن هذا التشريع المشين قد وضعه عبد العزيز بو تفليقة أيام أن كان حيًا على قدميه،  إذن هل تجلب الحرية الغفران؟ وإلى متى يجب علينا الانتظار؟ بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية كان فيسك موجودًا في حفل لتناول القهوة في الصباح في بيروت. كان من الموجودين في ذلك الحفل زعيم طائفي بارز، وفي إحدى زوايا الغرفة كانت هناك سيدة في منتصف العمر اختُطف ابنها – و«اختفى» في الخطوط الأمامية – على أيدي ميليشيا الخاصة بذلك الزعيم الطائفي.

وقفت المرأة لبعض الوقت تتمتم بعبارات تعبر عن غضبها تجاهه. وبعد ذلك وبينما كنا نشاهد في ذهول واجهت الرجل طالبة منه معرفة ما فعله بابنها وهي تصرخ وتصيح معبرة عن حب أم لابنها الميت بلا شك. حاول الرجل التفاهم معها، وقال إنه سيحاول معرفة ما حدث، وأنه آسف لما ألمَّ بها؛ إلا أنها اقتيدت بلطف وحزم خارج الغرفة. كان على والدة الضحية أن تغادر المكان وليس القاتل!

في عام 2017 كان محافظ حمص السوري يحاول إقناع المواطنين  بالبقاء في منازلهم وعدم المغادرة على متن حافلات المتمردين إلى محافظة إدلب. لقد كان روبرت يقف بجواره بينما يتسلق على الحافلات ويناشدهم بلا جدوى. وقال لفيسك لاحقًا: «هناك الكثير من الناس هنا يريدون عودة أحبتهم. كانت هناك الكثير من عمليات الاختطاف في بداية الحرب ولا يصدقون أنني لا يمكنني إعادتهم. لقد مضى وقت طويل، ونحن لا نعرف الطرف المسؤول».

لكننا يمكننا التخمين. يقول فيسك: نحن كمراسلين عادة ما نعرف – كما تعرف عائلات الضحايا – من قتل من عند نقطة تفتيش لبنانية أو سورية أو بوسنية. بعد كل شيء نحن نعرف من قتل 8373 إنسانًا في سربرنيتسا. لقد رأينا الجنرال راتكو ملاديتش على أشرطة الفيديو. لكن هل الأمر يتعلق بالأفراد؟ أم بالذين يطيعون أوامرهم حتى لو بدون حماس؟ أو بالذين آزروا وتعاونوا، ثم وجدوا أنفسهم بعد ثلاث سنوات من الحرب على الجانب الخطأ مثل سكان القرى المحيطة بقرية دير حافر؟

هل قد يصبح الجلاد ضحية؟
يقول فيسك: إن أولئك الذين ظنوا أنهم كانوا على الجانب «الصحيح» – في تونس على سبيل المثال حتى أثبتت الثورة ضد بن علي أنهم على خطأ – تُركوا بكوابيسهم الخاصة، وهي ظاهرة تستحق الدراسة. في تونس كان هناك جلسات استماع «هيئة الحقيقة والكرامة» بعد سقوط الدكتاتور، واقنعت تلك المجلة الفرنسية الصغيرة المشاكسة جون أفريك شرطي سابق ومعذب بالغ من العمر 68 عامًا بأن يعترف بجرائمه في ظل النظام البائد.

شرح «رضا» – وهو اسم مستعار بالطبع – كيف كان يعمل هو وزملاؤه. كانت مهمتهم الأولى هي إذلال السجناء الإسلاميين وتجريدهم من ملابسهم وضربهم بقضبان حديدية وسياط. يقول رياض: «بعد ذلك كانت هناك تقنيات أكثر تطورًا، مثل طريقة «الدجاج المشوي» وفيها يتم تعليق السجين في قضيب حديدي من قدميه ومعصميه ثم يتم تعريضه للصعق بالكهرباء في الأجزاء الأكثر حساسية من جسمه. وهناك أيضًا طريقة الحمّام حيث يتم دفع الضحية في ماء يحتوي على مواد كيميائية وبراز.. لم تكن هذه مسؤوليتنا، لكننا كنا محاصرين داخل النظام».

ولدى سؤاله عن سبب استمراره في ممارسة التعذيب قال رضا: «كانت حياتي مريحة وكنت أقوم ببناء منزلي، كما أنني كنت أتلقى تدريبًا للشرطة في فرنسا والمملكة المتحدة وفي دول شمال أفريقيا وأعمل في مخابرات مكافحة الإرهاب». لكنه يقول إنه أدرك أنه كان يطيع الأوامر ليس بدافع احترام رؤسائه ولكن بدافع الخوف. وعلى الرغم من أنه أقسم أنه لم يمس أية سجينة من قبل إلا أنه كان يسمع صراخهن. وعندما أُتيحت له الفرصة للاستقالة غادر على الفور «شاعرًا بالخجل من النظام الذي يلتهم رعاياه. عندما أصادف أي سجين سابق فإنني أدعي أنني لا أعرفه، وهو يفعل الشيء ذاته».

هنا ربما تتحقق الصورة التي تحدث عنها الطرابلسي والتي يصبح فيها الجلاد والضحية واحدًا. وخلص رضا إلى القول: «لكن كل أسف الدنيا لن يمحو أي شيء مما حدث. لقد اتجهت إلى الله، إن الحصول على عفو الله أسهل من الحصول على عفو البشر.. عاري يقضي علي ويلاحقني في كل مكان.. لا أعتقد أنني تعرضت للخيانة، لكنني أخاف أن يُقبض علي وأُلقى في السجن لأتعرض لما فعلته بأشخاص آخرين. قد أكون جبانًا، لكنني لست وحشًا».

لكنه كان وحشًا بالفعل – يقول فيسك. الحروب الأهلية – وهذه هي حالة المجتمع في الديكتاتوريات – تجعل منا جميعًا وحوشًا. وُلد تنظيم «القاعدة» جزئيًا في غرف التعذيب التابعة لجهاز مباحث أمن الدولة المصري. يضيف فيسك: عمر سليمان  – أكبر جاسوس وأقرب رجل أمن لمبارك والمسؤول عن العلاقات المصرية الإسرائيلية والرجل الذي رتب لعمليات الترحيل السري من الولايات المتحدة إلى جلادي القاهرة – سافر بشكل شخصي إلى تونس لتقديم النصائح لرؤساء رضا في عام 2006. في عام 2017 قام خلفاء عمر سليمان الذين يعملون الآن ضمن نظام الرئيس السيسي برحلة رسمية إلى دمشق لإرشاد الحكومة السورية. كيف يفصل الضحايا أنفسهم عن هذا العالم؟ كيف يمكننا إغلاق باب المعاناة؟

المصالحة كلمة سهلة، والحقيقة أيضًا. ويختم روبرت متسائلًا: كيف يمكننا إطفاء آلة الحرب الأهلية؟ بالاعتذارات؟ بالاعترافات؟ أم يجب أن ننتظر حتى يمر العمر الافتراضي الطبيعي لكل الذين أخطأوا والذين أخطأوا في حقهم؟ حتى لو ماتوا في سنوات المعاناة السابقة.

المصدر : وكالات – مترجم عن «الإندبندنت» 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى