رأي

رف العزاب !؟ .. د. نهلة عيسى

دلة قهوة باردة, وتلفزيوني دائماً على الأخبار, وثلاثة أنواع من الدواء (معدة وصداع وحموضة), وتلة من حلقات البحث, وأفلام الفيديو وشرائط الصوت تتجاوز المئتين أمامي, مطلوب مني تقييمها بعقل بارد محايد خلال أسبوع, يرافق ذلك  اعطاء المحاضرات التقليدية والافتراضية, ووضع أسئلة منهجية وموضوعية لخمس مقررات, والرد يومياً على العشرات من رسائل البريد الالكتروني المليئة بالأخطاء الإملائية من الطلاب الذين يعتقدون أنهم يستحقون علامة أعلى مما قد نالوا!! وأنا التي لو استندت حقاً للعلم بما يعنيه العلم لما نجح أحد!؟.

دلة قهوة باردة, وضيوف يتوسطون, وطلاب يراجعون, وآخرون يعتقدون أن وقتي مشاعاً, واتصالات لا حصر لها تسألني في مواعيد العمل: أين أنت؟ فأجيب: على يختي في وسط البحر!؟ فيضحكون بينما يدي تئن من وجع الكتابة, والرد الروتيني على مراسلات بالقول: رداً على كتابكم رقم كذا, تاريخ كذا, نفيدكم علماً!! والحقيقة أنني لا أفيد ولا أستفيد, فقط الأضابير تتضخم لأجل تبرير معاشات عشرات الموقعين على أوراق ربما لا تحتاج إلا لتوقعين وختمين, والأفضل لو كانت الكترونية, ولكنها وظائف الدولة, “دار السعادة” للمتكئين!؟.

دلة قهوة باردة, وفمي مرار, أبحث عن قطعة سكاكر, أو كلمة حلوة, أو وجه حنون ذكي يذهب بالمرار, فتطالعني وجوه الطلبة “التيفال”, اسألهم عن بديهيات البديهيات, فيرتد صوتي صدى, فأعيد السؤال, ويشفق علي أحد الطلاب, فينهض واقفاً يجيب, وأتمنى بعد سماع اجابته لو أنه صمت! فيتعالى صراخي, والوجوه أمامي ثلجاً تشعرني بالوحدة والبرد, وكأنها تقول: اذهبي انت وعلمك فقاتلا!! وأتذكر أنهم جيل الحرب, وأني في موقع لخصه “طوقان” في بيتين من  الشعر: “لا تعجبوا إن صحت يوماً صيحة, ووقعت ما بين البنوك قتيلاً, يا من يريد الانتحار وجدته, إن المعلم لا يعيش طويلاً”!!.

دلة قهوة باردة, وأكره أن أغادر مكتبي لئلا تصدمني الشوارع الأشبه بحلبات المصارعة, حيث السيارات بحر بلا مرسى, والقيادة لا فن ولا ذوق ولا أخلاق, بل قوة ذراع, وشتائم تطال الأب والأم وسابع جد, لينتهي بك الطريق وأنت تدور كالمروحة في حلقات مفرغة بحثاً عن مكان تلقي فيه جسد سيارتك المتعبة, فلا تجد في وجهك سوى الجنازير تغلق في وجهك كل الأمكنة, رغم أن الشوارع في كل البلاد ملكية عامة, إلا في بلادنا .. العام ملك السفهاء الأقوياء, ولا عزاء, ولا مكان لمعتنقي القوانين!؟

دلة قهوة باردة تنتظرني في البيت شقيقة دلة المكتب, وأضحك عندما أصل البيت, بجد أضحك, لأنني اجتزت بعض اليوم بنجاح, ألقي بحاسوبي على أقرب كنبة, ثم أتوجس, فأعود لتنصيبه في مكانه المعتاد فوق المكتب, وأطمئن أن بطاريته تشحن, فهو صديقي اللصيق, فأنا بدونه بلا ذاكرة, بلا قلم ولا ورق, وأيضاً ولا أرق, أفتح التلفاز على الأخبار لأتأكد أن كوارثنا ما زالت بخير! ثم أنتقل إلى قنوات الأفلام الأجنبية أتابع الصور, وكيف يصوغون من الصور قصصاً بلا ثرثرة, وأرد على هواتف أحبتي يعاودون سؤالي: أين أنت؟ فأرد ساخرة: أغادر يختي إلى اليابسة, لتبدأ بعد ذلك معاناتي اليومية بالتفكير بماذا يجب أن أسكت عواء معدتي اليائسة الصبورة, لينتهي بي المطاف كالعادة أمام رف العزاب, وأعني به المعلبات, أستنجد بها من كل مطبوخ يحتاج بعد العناء إلى عناء!!.

دلة قهوتي باردة, والعمل لا ينتهي, ولكنني مع نهاية كل يوم وبالرغم من رف العزاب, أكتشف كم حياتي ساخنة, صاخبة, فتية, لا ضجر فيها, ولا لحظة توقف للتساؤل: هل أنا متعبة, هل أنا سعيدة؟ لأنني حقاً متعبة ولكني سعيدة, فجبهاتي متعددة: وطني أولاً, مدرجات جامعتي وطلابي, أخواتي, أصدقائي وصديقاتي, وعشرات الاجتماعات للتفكير بالغد, رغم أن الغد يبدو بعيداً, لكني في كل يوم على أكثر من جبهة من هذه الجبهات, ألتمس منهم اليقين والرضا, والابتسامة الدائمة رغم الغضب, واللسان السليط الذي يبدو أملاً, وعدة وعتاد في وجه قبح, آن آوانه أن يترجل.

 

إقرأ أيضاً .. وناسة البنزين!؟ ..

إقرأ أيضاً .. الحي القتيل!؟ .. 

 

*أستاذة جامعية – سوريا

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى