العناوين الرئيسيةالوسط الثقافي

د. بريك هنيدي: الشاعر صوت الجوهر الإنساني، مستشرف الرؤى

الشعر قادر على طرح الأسئلة والنطق بأحاسيس تعجز عنها اللغة العادية ..

|| Midline-news || – الوسط …

إعداد وحوار : روعة يونس

 

عدد كتبه الخمسة عشر ما بين مجموعات شعرية ومؤلفات نقدية، بكل ما تتضمنه من قيمة شعرية وإبداعية وفكر ورؤى، وكل ما كتبه كبار الأدباء والنقاد عن تجربته الثرية، لا يفي الشاعر والناقد د.نزار بريك هنيدي حقه!

في الحقيقة أمضى شاعرنا المبدع حياته في الشعر وللشعر , حدّاً أنه يعتبر نفسه “شاعر مهنته الطب” وأن الشعر كان خياره الأول دائماً.

تلك الحياة التي كرّس الكثير منها للشعر، جعلت منه أحد أبرز شعراء الحداثة، ليس فقط في بلده سورية.

فقد أسس شاعرنا الطبيب لتجربة ومدرسة مغايرة في الشعر، تخص أبناء جيله ومن تبعه .. خاصة أن لغته الشعرية الحديثة صافحت الإنسان، واسترسلت في البحث عما في النفس من خلجات الحياة والموت والحب .. وأمسكت المبضع ليس لإجراء عملية جراحية هذه المرة، بل لتبحث بحرية وجرأة في الوجود عن كل ما في الوجود.

بذا، نحن أمام شاعر مفكر.. لم يقتصر شعره على الإبداع اللغوي، بل حلّق في عالم الفلسفة والرؤى والإنسانية. وخاضت معه “الوسط” في كل تلك الجوانب، في حوار بلسمي، كأنه الدواء.

“بدايات رامبو الجديد” ..

لنخبر “الوسط” بداية كيف استولى عليك الشعر، خاصة وأن أول كتاب لك صدر وعمرك أقل من عشرين عاماً؟
  • في الحقيقة أن ديواني المطبوع الأول (البوابة والريح ونافذة حبيبتي) صدر في نهاية المرحلة الثانوية ويضم القصائد التي كتبتها خلال المرحلة الثانوية، أما قبل ذلك فقد كنت أنشر قصائدي في المجلة التي أسستها وأنا طالب في المرحلة الإعدادية واستمرت في الصدور في “جرمانا” حتى عام 1975بالتعاون مع هيئة تحرير من زملائي المتميزين، ثم بالتعاون مع ثانوية “جرمانا” و”اتحاد الشبيبة” بعد أن وقعنا اتفاقاً أتاح للمجلة أن تصدر بشكل رسمي ويصبح لها مندوبين في عدد من ثانويات دمشق مثل (جودة الهاشمي والكواكبي واسعد عبدالله) وغيرها. وقد حققت المجلة نجاحاً متميزاً وحضوراً لافتاً في الأوساط الثقافية واستقطبت عدداُ من الكتاب كما أجرت حوارات مع عدد من كبار الشعراء والأدباء مثل بدوي الجبل وشوقي بغدادي وغيرهما. وقد بقيت رئيساً لتحرير المجلة حتى توقفها. فكنت أكتب لها الافتتاحية وأنشر قصائدي ومقالاتي النقدية أيضاً.  أما متى بدأت أعي علاقتي مع الشعر فربما كان ذلك يرجع إلى اليوم الذي اكتشف فيه معلمي في الصف الرابع الابتدائي الأستاذ غالب خوري أن ما أكتبه موزون بالفطرة، فرحت أتعلم أصول العروض وأحفظ القصائد وأكتب على منوالها.

ماذا عن المؤثرات القرائية والثقافية في تلك السن الصغيرة، كيف شكّلتها لديك؟
  • شغفت بالقراءة حتى قبل دخولي المدرسة، فقد كنت مولعاً بقصص الأطفال التي كانت تختارها لي والدتي -رحمها الله- وما زلت مولعاً بها حتى اليوم، لا سيما المكتبة الخضراء وكتب كامل كيلاني ومحمد عطية الابراشي وغيرها، ومجلات الأطفال التي كانت تصدر حينها، ثم أولعت بالسير الشعبية (سيرة بني هلال والزير سالم وألف ليلة وليلة) بعدها رحت أقرأ الروايات العالمية وكتب التراث وأحفظ الكثير من الشعر العربي، لذلك كانت القصائد التي كتبتها في المرحلتين الابتدائية والاعدادية تلتزم الشكل التقليدي ذي الشطرين. حتى تعرفت فيما بعد على شعر حركة الحداثة الشعرية العربية، فأحببت بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والبياتي، وشعراء المقاومة الفلسطينية. كما فتنني خليل حاوي الذي حفظت الكثير من قصائده عن ظهر قلب. وهكذا بدأت أنتقل في المرحلة الثانوية إلى الكتابة على نمط شعر التفعيلة أو الشعر الحر كما كان يسمى وقتها، وهذه القصائد هي التي شكلت مادة مجموعتي المطبوعة الأولى (البوابة والريح ونافذة حبيبتي) التي صدرت عام1977 بمقدمة باذخة للشاعر الكبير الأستاذ شوقي بغدادي، قال فيها “هذا هو نزار بريك هنيدي، فهل هو رامبو جديد في شعرنا اليوم”؟ وقد استقبلت المجموعة وقتها بحفاوة بالغة في الأوساط الثقافية، وكتب عنها الكثير في الصحف المحلية والعربية.

“فردٌ في جوقة” ..

“أنا شاعر يعمل طبيباً”.. مقولة مشهورة لك. قد تُفهم المقولة حماسة للشعر منك، أو يعتقد البعض أنك تُقدّم الشعر على الطب؟
  • نعم كثيراً ما أكرر هذه المقولة، لأشير إلى مسألتين مهمتين لي، أولاهما حقيقة أنني منذ طفولتي المبكرة أعد نفسي شاعراً، وقد كتبت الشعر ونشرته، بل وأصبحت معروفاً كشاعر قبل أن أفكر بدخول كلية الطب، التي اخترتها في الأصل من أجل أن أوفر لنفسي مهنة مستقلة لا تربطني بنظام وظيفي ولا تراتبي يعيق من حريتي التي أقدسها ولا يمكن لي أن أكون شاعراً حقيقياً دونها. لاسيما أنني كنت متفوقاً أيضاً في المواد العلمية كلها، وكنت أرى في الطب المهنة التي تناسب شخصية الشاعر أكثر من أي مهنة أخرى، فالشعر ليس مهنة, ولا بد للشاعر من أن يعمل في مهنة ما كالتدريس مثلاً أو السلك الديبلوماسي أو غيره. وقد كان لي في الكثير من الشعراء الأطباء في التراث العربي وفي الأدب الغربي قدوة حسنة تؤكد صحة اختياري. اما المسألة الثانية فتتعلق برغبتي في أن أميّز نفسي من الأطباء الذين لا يعدون الشعر همهم الحياتي الأول، بل يمارسونه كهواية تشجعهم عليها محفوظاتهم ومهاراتهم في التقليد والصياغة، مما لا يجعل منهم شعراء حقيقيين، بل مجرد هواة يمارسون لعبة من ألعاب أوقات الفراغ، ومن ثم فإنهم لا يمكن أن يكونوا في صميم الحركة الشعرية.
تعتبر أحد أبرز شعراء الحداثة، وليس في سورية وحسب. فكيف أسست لبداية مغايرة في الشعر، وكرّستها قبل أربعة عقود ونيف؟ (لا يخفى عليك أن كثر يقتفون أثرك)!
  • بالرغم من أن صيغة سؤالك تدغدغ داخلي وتر الرضا عن النفس، أو القناعة بالإنجاز الإبداعي، كما سبق لهذا الوتر أن دغدغته عبارة شوقي بغدادي حين شبّهني برامبو جديد في الشعر العربي المعاصر، أو مقالة الناقد الكبير محي الدين صبحي، صبحي التي قال فيها ان قصائدي تؤرخ لبداية جديدة في الشعر السوري، أو غيرها من الشهادات التي ما فتئ يتحفني بها كبار الشعراء والنقاد الذين أعتز بهم. إلا أنني في الحقيقة لا أرى في نفسي أكثر من فرد في جوقة، حاولت وتحاول أن تصغي إلى أصوات الحياة، وتلتقط إشارات العصر، وتتلمس أسرار الواقع المضطرب، وتعبّر عن هواجس الجوهر الإنساني ومكابداته وطموحاته. وفي اعتقادي أن كل فرد من أفراد هذه الجوقة، وبمقدار إخلاصه لحقيقة أحاسيسه وطبيعة رؤاه، وقدرته على التعبير عنها في أبنية فنيّة تعادلها في الجدّة والرهافة، فإنه يصلح لأن يرسم بداية مختلفة للحركة الشعرية التي تحتاج إلى بدايات متنوعة تتجدد مع كل شاعر.

“الدور السامي” ..

وإنما سألت سؤالي السابق، كي تروي لأبناء هذا الجيل، كم استلزمك من: شعر وثقافة وإطلاع وجهد وفكر وقلق وتطوير، لتكون ما أنت عليه؟
  • مشكلتنا اليوم مع الأجيال الجديدة أن كثيرين منهم يظنون الشعر عملاً بسيطاً, أو نشاطاً ثانوياً، لا هدف له إلا التعبير المباشر عن المشاعر والأحاسيس، أو صياغة الأفكار ونقل الرسائل، أو الاستعراض والمشاركة في المنتديات والأمسيات والسهرات، أو تبادل الإعجاب والمدائح المجانية، لا سيما بعد ظهور وسائط التواصل الاجتماعي التي سمحت لكل من هبّ ودبّ أن ينشر ما يريد، ويعلن نفسه شاعراً يخترق سماء الإبداع، ولو لم يكن لديه ما يقوله سوى الترهات والعبارات الممجوجة، وحتى لو كان لم يقرأ في حياته نصاً شعرياً حقيقياً واحداً!
    وهنا لا بدّ لي من أن أؤكد ما أقوله دائماً من أن الشاعر هو من يسعى إلى أن يكون بحق صوت الجوهر الإنساني، وهو لن يستطيع أداء هذا الدور السامي إلا إذا وقف في نقطة علوية تتيح له الاطلاع على التاريخ برمته، وتمكنه من اختزان تجارب وخبرات الجنس البشري، وتؤهله لتمثّل خلاصة الفكر الإنساني، ليس فيما يتعلق بالفن الشعري فحسب، بل في جميع مجالات العلوم والمعارف، كي يكون قادراً على إدراك ما لا يدركه الآخرون، ويصبح مؤهلاً للنفاذ إلى أعمق الأسرار وأدق التفاصيل، ويصير قابلاً للاستشراف والرؤيا كي تكتسب نصوصه جدارة الانتماء إلى مملكة الشعر.

في مجموعاتك الشعرية جميعها .. كنت حراً، محلقاً، رغم أسئلتك الفلسفية الفكرية عن الإنسان والوجود والحياة والخلاص. وكنتُ أظن أن طرح الأسئلة في الأدب، يكشف ربما عن حيرة وضيق وتنقيب! كيف استطعت طرح أسئلتك متجاوزاً القيود ؟
  • في اعتقادي أن الشعر والفلسفة والعلوم البحتة جميعها ليس لها من هدف سوى مساعدة الإنسان على إدراك العالم من حوله، ومقاربة أسرار الحياة، وتفسير غوامض النفس البشرية وأحوالها المختلفة.  ومع أن الانسان منذ فجر وجوده في هذا الكون، ما فتئ يطرح على نفسه هذه الأسئلة الوجودية المختلفة، إلا أنه انتبه مبكراً إلى أن نوعاً من هذه الأسئلة يمكن أن تكون رهناً بالعلوم النظرية أو التجريبية، مثل الأسئلة المتعلقة بالظواهر الطبيعية أو المسائل المادية، وأن نوعاً أخر لا يمكن مقاربته إلا عبر الفلسفة وأساليبها المنطقية العقلانية، مثل أسئلة المجتمع والمدنية والأخلاق وغيرها. ولكن يبقى الكثير من الأسئلة التي تعجز اللغة عن صوغها صياغة واضحة ودقيقة، لأنها ناجمة في الأصل عن الأحاسيس الغامضة التي ترتسم على سطح النفس البشرية في تفاعلها مع الأحوال والمقامات والمفاهيم التي تعجز عن وصف صفاتها ورسم حدودها، مثل الحب والخوف واللذة والجمال والغيب والموت والخلاص والخلود وغيرها، وهذه الأسئلة لا يمكن طرحها إلا بلغة الشعر القادرة على النطق بما تعجز عنه اللغة العادية، ولا يمكن البحث عن أجوبة لها إلا عبر الخيال الشاعر القادر وحده على توحيد الأضداد وتجسيد الرؤى والتعامل مع الرموز والمجاهيل، والاقتراب من تخوم المستحيل. ومما لا شكّ فيه، أن طرح مثل هذه الأسئلة لا يمكن أن يتم إلا في مناخ من الحرية المطلقة التي تتجاوز جميع القيود الأيديولوجية أو الاجتماعية أو اللغوية أو الفنية.

“النقد وطرق التذوق”

يتفق قراء شعرك أنهم أمام شاعر وجد في الشعر نمط حياة.. وقارئتك روعة هي من ضمن فريق يرى أننا أمام شاعر رؤى يُشكّل شعره فلسفة حياة.. أينا على صواب؟
  • منذ طفولتي المبكرة التي اكتشفت فيها سطوة الكلمات والصور والأنغام على روحي، حاولت أن أجعل من حياتي كلها ميداناً ألاحق فيه الأحاسيس والمشاعر والرؤى، وأعيد تركيب العلاقات، وإنشاء الصلات مع الأشياء والموجودات، في سبيل تحويلها جميعها إلى مشاريع شعرية، بما فيها مهنة الطب التي اخترتها لأكون أكثر قدرة على اكتشاف أعماق النماذج البشرية التي أتعامل معها، وأكثر تواصلاً مع آلامها ومكابداتها. وهكذا أصبح الشعر نمطاً فعلياً للحياة بالنسبة لي. وبما أن الشعر كما أفهمه، هو محاولة لفهم الحياة وسبر أغوارها، وطريقة لإعادة تشكيلها حتى تصبح أكثر ملاءمة وأشد تقارباً مع خصائص الجوهر الإنساني، فإن الشعر بهذا المعنى سيصبح فلسفة حياة بالنسبة للآخرين. وبذا أنتما معاً على حق.
سابقت في النقد حضورك كشاعر. وقدمت ربما ثلاثة أو أربعة كتب في النقد. واعذرني على سؤالي الفظ: هل تستطيع تقييم الفوائد والنتائج التي بلغتها من مؤلفاتك النقدية؟ أنا لست ضد النقد. لكنني أبرر سؤالي بأن الشعر حرية والنقد قيد!
  • أصدرت حتى الآن ستة كتب نقدية، بالإضافة الى عدد كبير من المقالات والدراسات في الصحف والمجلات، ولا بد لي هنا من  تأكيد ما كنت أقوله دائماً في غالبية مقدمات هذه الكتب، من أنني في ممارستي النقدية لا أتقمّص شخصيّة الناقد ولا المنظّر أو الباحث الأدبي، فأنا أعدّ نفسي شاعراً أولاً وأخيراً. وجميع ما كتبته من مقالات ودراسات، أو عبّرت عنه من آراء وتأملات، لا يعدو كونه  هوامش على تجربتي الشعرية. فمن الطبيعي للشاعر الذي يشكّل الشعر همّه الحياتي الأول، أن يهتمّ بجميع القضايا المرتبطة بفنه، بدءاً من تفحّص أدواته ودراسة العناصر التي تتحكّم بأدائه الفني والبحث في العوامل التي تتدخّل في علاقته مع المتلقي، ومروراً برصد الإحداثيات التي تحدّد فضاءات حياته وفكره وإبداعه. ووصولاً إلى تسجيل انطباعاته عن التجارب الشعرية السابقة على تجربته، أو المتزامنة معها، و اختبار المقولات النظرية والرؤى النقدية المطروحة على الساحة الشعرية. وأعتقد أنني أفدت كثيراً من هذه الدراسات في منحيين اثنين، أولهما إغناء تجربتي الشعرية التي أصبحت أكثر نضجاً بما لفحها من وهج التأمل النظري والدراسة والبحث. وثانيهما، وربما كان الأكثر أهمية بالنسبة لي، هو مساعدة قرّاء شعري ونقّاده على تلمس المفاتيح الرئيسة لمفهومي الخاص للشعر، من خلال اطلاعهم على طرق تذوقي للنص الشعري، وأساليب تفاعلي مع الأخيلة والايقاعات والكلمات، وكذلك الأسس التي أقيم عليها أحكامي النقدية. مما يجعلني أعتقد أن ذلك سيزيد من تمتين العلاقة بيني وبين شرائح أوسع من الذين يتذوقون شعري، ويدرسونه أو يتفاعلون معه.

“إنجاز الفكر البشري” ..

بعد عشرات الكتب والأبحاث ما بين شعر ونقد.. والعديد من الجوائز، ماذا بعد؟ هل توصلت إلى معرفة الذات والوجود ؟
  • أعتقد أن جميع ما أنجزه الفكر البشري، منذ أن بدأ الانسان يعي وجوده في هذا العالم، ويطرح أسئلته المتواصلة ويصوغها في قصائد أو تراتيل أو أفكار وفلسفات وايديولوجيات، أو في مكتشفات واختراعات، لم يستطع أن يصل إلى فك طلاسم الوجود، ولا رفع الحجب عن أسرار الحياة، ولا اكتشاف أغوار النفس البشرية.
  • كما لم يستطع أن يصالح الجوهر الانساني مع موجودات العالم وأحداثه وكوارثه، ومفاجآت الأقدار وتحولات الزمن. لذلك فأقصى ما يطمح إليه أي شاعر أو باحث أو عالم أو مفكر، لا يتعدى أمله في أن تكون أعماله قد أضافت شيئاً إلى وجدان معاصريه ورصيدهم من التجارب الفنية والجمالية والمعرفية، أو قدّمت ما يمكن أن يفيد الأجيال التي ستأتي بعده لمتابعة مسيرة الكشف والمعرفة والابداع. هذه المسيرة التي لن تتوقف ما دامت البشرية تسعى إلى تحقيق عالم الخير والفرح والعدل والمحبة والجمال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى