د.فراس الضمان: يهمني أن يكون لحرفي مذاقٌ لا يُنسى.. ولا يعنيني أن يكون ما أكتبهُ شِعراً أو نثراً
شاعر طيلة العمر.. وطبيب في وقت الفراغ

|| Midline-news || – الوسط …
إعداد وحوار: روعة يونس
.
هل عرفتم من قبل شاعراً يسبق الحزن بخطوتين إلى الوراء؟ وعلاماته الفارقة ثلاثة رماح في ظهره يزهو بها سعيداً منتصراً؟ يقتحم قلوب قراء شعره ونثره ومنشوراته ليجبُرَهم، ويخرج منهم ليحطم….!
لا غرابة أن يكون صاحب أسلوب جاذب مؤثر، فشاعرنا الجميل فراس الضمان اجتمعت لديه أمجاد أن يكون ابن العاصمة الثقافية في سوريا مدينة “سلمية” وأن يكون سليل عائلة أطلقت إلى الفضاءات شعراء كبار، وأن الله مذ خلقه كوَّنه شاعراً، وشاعراً بالناس.
فراس الضمان.. الشاعر الأذكى، الذي لم أجد ولن تجدوا من لا يحبه ويُقدّره ويعتبره ناطقاً رسمياً باسم مشاعره. والطبيب الذي يستخدم المبضع والسكين ليكتب شعراً دفاعاً عن سوريا وإنسانها، ويتوسط القلوب والضمائر.. هو بيننا اليوم في حوار “الوسط” معه. وهو حوار تشهد إجاباته أنه مغاير بحق.
“الأغبياء لا يشعرون”
كونك من مدينة سلمية عاصمة الثقافة السورية، فضلاً عن نشأتك في عائلة مثقفة تضم شعراء كبار، لا شك أضاف إليك. حدثنا عن ما تعلمته؟
مَسقَط دمعتي قرية تدعى “بَري الشرقي” تقع إلى الشرق من مدينة سَلَمية بحوالي 15 كلم، فيها تعلَّمت نظرياً كل شيء، وفي السادسة من حزني كان لابد من الانتقال إلى مدينة سلَمية لتطبيق كلّ ما تعلَّمته عملياً في بيت جدتي “أم فيصل” وفي الأزقَّة والجَبَّانات والحارات والحانات المتروكة لمصيرها منذ ألف شاعر خرج من سلَمية و لم يعد حتى الآن!
أرى أن أهم مقوماتك كشاعر هو “الذكاء”. ولا أقف فقط عند “الذكاء” كمكون رئيس لتجربتك الشعرية. بل أضيف إليه الجرأة والشجاعة. أصدقني ألا تخشى الآخر؟ الآخر الذي هو ليس قارئ ولا صديق؟!
لا يوجد شاعر غبيّ … الأغبياء لا يشعرون .
ثم الشاعرية و الشجاعة لا تُعلَّمان، في سبيل سوريا أنا مُستعِدٌّ أن أضحِّي بحياتي من دون أن يرفَّ لي جفن، في “بري الشرقي” كان جَدِّي فارس الضمان لا يَخشى أحداً.
“أسلوب مبتكر”
أنت في شعرك دائم الوميض. نصوصك ومضات متواصلة لا تنقطع. كيف تكوّنت لديك هذه التكثيفات الآسرة، التي تشدّ القراء؟
أنا أكتب كي لا أنطفئ، مولَعٌ أنا بالغياب، الغائبون في الحانة والمقهى و”السرفيس” وباحة المدرسة يُقَطِّعون شراييني، الغائبون يُنبوعي.
نصوصك رصاصات مدكوكة لا تقتل. ربما تجرح لكنها لا تسيل الدماء. والتكثيف الذكي يبدو لي أنه تأسيس لأسلوب مبتكر؟
الحياة أسلوب، كما يقول “بوكوفوسكي” مهمٌّ جداً أن أقتحم قلب القارئ وأخرج منه بأقلّ من لَحظة! مُحطِّماً في طريقي عشرات الكؤوس والمَعابد والزجاجات والجدران والمرايا، وزارعاً عشرات الغابات والجبال والبحار والأنهار والمدن من دون أن يشعر بي أحد!
“مذاق الحرف”
بعيداً عن الشعر، أسلوبك الساخر في معظم كتاباتك، هو نزف يومي –لحظي- أي جروح مفتوحة لديك حتى تعالجها بالسخرية؟
إصراري على البقاء في مدينة سلَمية بعد 2011 رغم كل العروض والإغراءات التي فُرِشَت تحت قدميّ للخروج إلى ما وراء البحار؛ جعلني هدفاً مغرياً لأصحاب القلوب السوداء. وهذا استوجب خوضي حروباً يومية في الشارع و”السرفيس” والمشفى والمقهى والفرن وكوَّة البريد والكهرباء والماء. الطريف في الأمر أنني كنت أخوض حروباً يومية تحت قصف الصواريخ وبين انفجار المُفخَّخات؛ إلا أنني كنت أعود كلّ مساء إلى بيتي مُنتصِراً.. فَرِحاً.. مَزهواً.. بثلاثةِ رماحٍ -على الأقلّ- مزروعة في ظهري.
لا يمكن تجاهل حضورك الفذ في وسائل التواصل الاجتماعي. هل يحزنك إن قلت لك أن الإجماع والتحلّق حول فراس الضمان ككاتب نثر أو مقال أو يوميات، قد يكون أكبر من التحلق حول شِعرك؟
للحرف مَذاق، لا يهمّني أن يكون ما أكتبهُ شِعراً أو نثراً أو كلاماً عادياً، مهمٌّ جداً أن يكونَ لحرفي مذاقٌ لا يُنسى.. لا يُنسى أبداً !
لنتوقف لثانية عند ثنائية الشاعر- الطبيب فراس الضمان..
فراس الضمان طبيب في أوقات الفراغ فقط .
“الترعرع مع الحزن”
لماذا تفيض في كل نص عاطفي أو وجداني؛ بالأسى والحزن والوجع؟ هل هو الحدث الذاتي، أم الواقع الجمعي الذي يخص الإنسان، أم الاثنان معاً؟
في السادسة من حزني غادرت “بري الشرقي” إلى مدينة سلَمية ثم إلى مدينة وهران الجزائرية برفقةِ عائلتي، تجرّعت كأس الغربة منذ نعومة دموعي، كانت كلمة (سوري) تُهمَةً بين الأطفال الأمازيغ في شوارع وهران وقسنطينة وتلمسان، كنت أضطر أن أصفِّق “للبوليساريو” في الوقت الذي كان خالي هيثم -الجندي السوري الذي احترقت دبابته في القنيطرة- فاقداً للذاكرة يشرب دموعه فوق تلّ الغزالة في سلَمية.. ترعرعتُ مع الحزن في غرفة واحدة، أكَلْنا من القلب ذاته، وشربنا من الحانات ذاتها، واحتمينا تحت حمَّالات الصدر ذاتها، لكنني كنت دائماً أسبقه بخطوتين إلى الوراء!
عنوان مجموعتك “بائع الكستناء الأدرد” بمفرده؛ يكشف كماً من الوجائع. إذ لا أصعب من أن يكون فاقد الشيء هو الذي يعطيه. صحيح؟
مِن بعيد …
بعيد بما يكفي
كي أخطئ ظَهراً حزينةً على الطريق
أو وَجه حانةٍ في لَيلةٍ ماطرة
أو عَربَةَ بائع الكستناء الأدرد!
من بعيدٍ بعيد…
أحبَبتُكِ من النسمةِ الأولى.
لنعد إلى سلمية.. ماذا عنها بكلمة.
مدينة سلَمية هي كَعبةُ سوريا البيضاء.
وماذا عن المرأة؟
“دفاعاً عن النَّفس
أرسمُ بالسكِّين..
دفاعاً عن سوريا
أكتبُ القصائد على الجدران..
دفاعاً عن الله …. أحِبُكِ” !
“حلم وأمنية”
ما تفعل يا شاعرنا حين تكون يائساً؟
عندما أكون يائساً أقرأ لمحمد الماغوط أو تمام تلاوي أو منذر الشيحاوي.. أقرأ تمام تلاوي أو منذر الشيحاوي أو محمد الماغوط.
لذا أمنيتي الأخيرة في هذه الحياة هي أن يتزوج ابني فايز الصغير بحنين ابنة الشاعر الكبير تمام تلاوي.
بعد كل ذلك.. قل لنا على طريقتك من أنت؟
أنا فراس الضمان، آخرُ الحمقى في قطار “بابلو نيرودا” المتوقِّف منذ خمسين عاماً تحت المطر، ولِدتُ سورياً عربياً مُسلِماً في سَلَمية، أعيشُ منذ عشرين عاماً مع قلبي، أتكلَّمُ العرَق الحِمصيَّ بِطَلاقة، لي شامةٌ حزينةٌ في حلب، وندبةٌ قديمةٌ في القامشلي، وغمَّازة حين أضحك في صافيتا. أحلمُ أن أموتَ سورياً كردياً مسيحياً؛ وقصيدة أرمنية مَحفورة على قبري.