العناوين الرئيسيةحرف و لون

ديانا الغزّاوية.. خليل البدري

لوحة : عبدالرحمن مهنا

ذاتَ صباحٍ جميل ..كانت أغنية كاظم الساهر تُلعْلعُ من شباكها.. وتظهرُ ديانا و”كأنّها” تُنظّف غرفة استقبال الضيوف.. وتمثُّلُ أنها ﻻ مُبالية كحالِ البنات دائماً..

“ديانا” تلك الفلسطينية الباسِقة الرّشيقة الناهِد، ذات الشَّعر الطليق دائماً والشّامةِ الواضحة في جيدها والسَّحنة الغَزَّاوية.. كنتُ في “الوحْدات” في عَمّان حين استأجرتُ داراً في مُخيّم الفقراء والكادحين في زقاقٍ ضيّقٍ بشكل مؤقت.. كان شُبّاكي يُطِلُّ مباشرةً وعلى بُعْدِ ثلاثة أمتار من شباك دارها.. حين تفتح الشباك أسمع بوضوح حديثهم ونقاشاتهم. لم أتعمد التجسّس، لكني أفتح الشباك ﻷن البيت كان صغيراً ورَطِباً ويحتاج للتهوية والشمس.
كان ذلك أيام الحِصار الاقتصادي على العراق، خرجتُ أبحثُ عن وطن ٍيقبلني ويؤويني ﻻجئاً.. هرباً من الحُروب وظُلْم النظام وبؤس الحصار. اعتدتُ صوتَ “الساهر” بشكل يوميٍّ وهو يُلح ّعليَّ. وأعرف مضمون رسائله. ذات مرة، وبينما شباكي العالي مشرع للشمس والهواء، وأنا ببراءة أشاهد “داليدا رحمة” المطربة اللبنانية الرقيقة وهي تغني أغنيتها الجميلة “يُمَّه يا يُمّه مَدْري ويش مالي، رُدّي الباب يَمّه الهَوى شْمَالي”قطع صوت أمُّ ديانا جارتي اندماجي باﻷغنية: “سدّي الشباك يا بِنِتْ”. وتجيبُ ديانا الجميلة أمَّها: (الهَوا .. الهَوا يَمّه … خلّي يُدخِل الهوا يمّه).
كانت تقولها بغنَج ..وتتنهَّدُ في كلمة “يمّه”!! وكنت أعرف أنها تقصد (الهوى) وليس الهواء..
بعد برهة تسقط بجانبي من الشباك علبة صغيرة.. كانت من جهة شباكها.. لم أقُمْ من مكاني، تناولتُ العُلبةَ الكارتونية الصغيرة وفتحتُ الرسالة المُطْبَقةَ داخلها.. كانت كلماتها تفيض بالحب وتصِفُنِي بأنني “محترم ورزين”.. وأنني سلبتها قلبها.. وطبعتْ في ختام الرسالة “حُمْرة” شفتيها!.
ﻻ أنْكِر أنني شعرتُ بالنشوة والمتعة.. وابتسمْتْ. مال قلوبِ البنات رقيقةً وحالمة، وتتعلّقُ بسرعة؟! لكنها فتاة جميلة وشقية ومرِحة حسبما أﻻحظ. كتبتُ لها رسالة صُغْتُها بشكل أعلم أنه سيجعل قلبها الحنون يتعاطف معي، واخترت مفردات تثير التعاطف! لم أكن أريد لها أن تتعلق بي وﻻ أريد التعلق بها، وﻻ أن أصدها بقسوة. لكن شعورا غائرا وعميقا في داخلي أخبرني أنني بحاجة لقلب طيب يحبني ويواسيني في غربتي ووحدتي.
كتبت لها أن قلبي غير صالح للحب.. وأنني “رحال” ومسافر لوجهة ﻻ أعرفها، وأنني وحيد و”ﻻ أعرف في اﻷرض مكاني” كما يقول نزار قباني، وأني ﻻ أريد لقلبها الصغير والجميل والبريء أن يتحطم ويتعلق بغريب على وشك الرحيل، وأنني وددت لو عرفتها في مكان وزمان آخر، لكنها اﻷقدار. وطلبت منها أن ﻻ تفكر بالغريب الرحال!
في صباح اليوم التالي، سمعتُ صوتها يدندن، مددتُ رأسي ورأيتها مشرقة كالشمس، وإبتسامتها كأنها أشعة الصباح، هزّتْ يدها وحاجبيها.. فرددْتُ بحاجبي ورميتُ رسالتي من شباكي إلى شباكها الجميل ثم أغلقته خشية عليها.
في الغروب سمعتُ بابي يُطرقْ، كانتْ أُخْتُها الصغيرة وبيدها صَحْن حلوى غَزّاوية. تأثرتُ كثيرا.. كان لديّ رُطَباً عِراقيا (بَرْحي) طلَبتُ من الصّغيرةِ أن تنتظر ﻷُعيدَ الصّحن. فملأتُه ب (البرحي) وشكرتُها.. قالت لي الصغيرة “إيمته بِدَّك تسافر؟” قلت: شو عرّفك؟! ابتسمتْ الصغيرة وقالت: “حكتْلي العُصفورة”. ضحِكْتُ و قُلْتْ: أحلى عصفورة.
لمْ تَدْرِ ديانا الباسقة الجميلة أنني تركتُ قلبي أمانةً في العراق.
.

*كاتب وقاص من العراق
*اللوحة للفنان التشكيلي عبدالرحمن مهنا- سوريا

 

http://تابعونا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى