خدمة الرسائل القصيرة .. د.محمد عامر المارديني

|| Midline-news || – الوسط …
.
مساءَ كل يومٍ، يبدأُ شجارٌ عنيفٌ بين القاطنين منذ قرابةِ أسبوعين في الطّابقِ الثالثِ من البناءِ ذي الأربعةِ طوابقَ. شجارُ لايلبثُ أن يتحوّلَ إلى عملياتِ كرٍّ و فرٍّ ، صفعاتٍ مصحوبةٍ بصراخ عالٍ وعويلٍ تسمَع آهاتُه وأنّاتُه في كلّ مكان! مااستدعى اجتماعَ الجيرانِ كلِّهم في بيت أقدمِهم سكناً المعروفِ بأبي عبدو، لمناقشة سببِ المشاحناتِ العنيفةِ في محاولةٍ منهم طرحَ حلولٍ لنزعِ فتيل المعضلةِ المعقَّدة التي أضحت حديثَ الحيّ!
قال أبو عبدو: يا جماعة، تصوَّروا ما حصل البارحة! سمعتُ صوت رجلٍ يصرخُ غاضباً أشدَّ الغضب، ليَليَهُ صوتُ صفعة طنّانةٍ رنّانةٍ دوَّت في أذنيّ كرنين جرسِ المدرسة المجاورة،ثم أخذت إمرأةٌ تصرخُ وتولولُ وتنتحب، بعد ذلك سُمعَ تأوُّهٌ فظيعٌ من الرجل وكأنّ المرأةَ قضمت إصبعاً من أصابعه، أو ربما عضّته من موضعٍ آخرَ !
قاطعتِ الجارة أمّ غسّانَ الحديثَ مستغربةً: غريب ما تقول، فقد شاهدتُ اليوم رجلاً قميءَ الوجه وشابةً جميلةً تنزلُ معه من الطابقِ الثالث، ولا علائمَ أبداً لكلّ ما قلتَ ووصفتَ، بل على النّقيضِ من ذلك، رأيتُ الرجلَ ممسِكاً بيدِها بحنانٍ و رقّةٍ، كما أنّ وجهَها الفاتنَ -ما شاء الله- كان خالياً من أي أثرٍ لصفعاتٍ أو كدمات، لا بل كانت مرتميةَ الرّأسِ على عضده كالملاكِ النّائمِ، إلى أن وصلا حيثُ سيارتُهما الفارهةُ، فهروَل الرّجلُ مسرعاً إلى الباب الأيمن ليفتحَه لها، ثمّ أجلسَها في مكانها بكلّ رفقٍ وهي تتدلّع أمام المارّين وكأنها الأميرةُ الحسناءُ ، كما طبعَ على خدِّها قبلةً ناعمة قبل أن ينطلقا.
قالت الجارةُ أم جوزيف: لديّ اقتراحٌ ، ما رأيكم بأن نزورَهما غداً مساءً لعلَّنا نهتدي إلى حلّ اللغز؟
وافق الجميع على الاقتراح، وفي الموعد المحدَّد، وأثناء الزيارة أخذ الجيران يتسامرون مع الزّوجين في قضايا الحياة اليوميةِ عسى أن يسقطا في زلّةِ لسانٍ تقود إلى الحديثِ عن عراكِهما المستمرّ، إلا أن اللافتَ للانتباهِ كان فائق الحبِّ الذي كان يلفُّ الاثنين. وبعد انتهاءِ الزّيارةِ غادرَ الجيران خائبي الأملِ لكنّهم اتّفقوا وقرّروا أن يرسلوا شكوىً عبرَ الهاتفِ من رقمٍ مجهولٍ إلى مخفرِ الشرطة فورَ سماعِهم أولَ صوتِ شجارٍ يصدرُ من الطابقِ الثالثِ، حيث لم يعد لديهم طاقةٌ على سماعِ ذلك الصّخب.
بالفعل ما إن عادت كرَّة الصراخ من جديد حتى جرى الاتّصالُ بالمساعدِ جميل من مخفر الشرطة الذي بدأ التحقيقاتِ بزيارةٍ إلى المنزل الغامض، وقرعَ جرس الباب ففُتحَ عن سيّدةٍ عجوزٍ شمطاءَ قصيرة القامة، وجهُها متخمٌ بالتجاعيد والنمش.
قالت له بصوت متحشرج: ماذا تريد؟ أنا مشغولةٌ ولا وقتَ لديَّ أضيّعُه بالحديث معك!
قال لها: أنا المساعدُ جميل من مخفر المنطقة.
ما إن سمعتِ العجوزُ كلمةَ مخفر حتّى أغلقتِ البابَ في وجهه دونَ أيّ اعتبارٍ لمَهمّتِه أو لِزيّهِ الحكوميّ الرسميّ. ضحك المساعد جميل وعرف أنّ في الأمر لَبساً، إذ لا يمكن أن يكونَ لهذه العجوز زوجٌ يضربُها أو تضربه، فاقترب من الباب قائلاً: سامحيني سيّدتي على الإزعاج فلربّما هناك سوءُ فهمٍ ،دمتِ بخير.
عاد المساعد جميل إلى المخفر ليتأكّدَ من رقم المسكن والطابق قبل أن يعودَ مع عناصره مرةً أخرى إلى البناء، مجدّداً طرقَ الباب لتظهرَ له هذه المرّةَ سيدةٌ في الخمسين من عمرها ترتدي غطاءَ الصلاة وتحملُ سبحةً بيدها، قال لها: أنا المساعد جميل من مخفر المنطقة، لقد كنتُ هنا للتوّ وفتحت لي الباب سيدةٌ عجوزٌ.
قالت له: يستحيل هذا!
قال: سنتحقّقُ من الأمر على أيّةِ حال، لكن الآن لدي شكوىً من سكّانِ البناء بأنكم تزعجونهم بصراخكم الدائم. هلّا أتيتِ معنا أنتِ أو زوجُك للتعهّدِ أمام رئيس المخفر بعدم الإزعاج؟!
قالت له: قبل أن نذهبَ إلى المخفر أرجو أن تتفضّلَ وعناصرَك لتروا كيف أتشاجرُ مع زوجي! استغرب المساعد جميل هدوءَ أعصاب تلك السيدة ،وطريقة حديثها عن شجارٍ مفترض، لكنه لم يتوانَ عن الدّخولِ إلى المنزل. دخل المساعد جميل فهالَه منظرُ البيت من الداخلِ ، كان بيتاً جميلاً جداً، مفروشاً بأفخمِ الأثاث، كل شيء فيه ينبئ عن ثراءٍ فاحشٍ وذوقٍ رفيع.
قال المساعد جميل مشدوهاً: وأين زوجُك؟ قالت له بدهشة: من؟؟ زوجي؟؟ ما هذا الهراء؟ من قالَ لك إني متزوّجة؟ أنا أعيش وحيدةً في هذا البيت.
قال لها: أعتذر منك أشد الاعتذار على إقلاقِ راحتك،لكن هل لي أن أرى أيَّ شيء يثبت ذلك؟ عقد شراء؟ أو تأجير البيت؟ وسأغلقُ الشكوى على الفور. وهذا ماكان. ولمّا راجعَ أبو عبدو المخفر لمعرفة نتيجةِ التحقيق نهَرَه المساعد جميل بسبب بلاغه الكاذب، لكنّ أبا عبدو صار يحلف بأعظمِ الأَيمانِ أنّ رجلاً وامرأةً يقطنان في البيت ، وأنه قد زارهُما بنفسه، وبرفقة جميعِ الجيران قبل أسبوع، وأنّ قاطني البناء يسمعون صراخَهما وعراكَهما يوميّاً قال المساعد جميل: أضغاث أحلام ربّما ،إن لم تنته من كلامك هذا ستبيتُ اليوم عندي في النظارة بدعوى إزعاجِ الأمن.
في اليوم التالي وأثناء ذهاب أمِّ جوزيف للتسوّق رأت طفلاً بعمرِ الثامنة يخرجُ من البناء وهو مرتدٍ لباسَ المدرسة، و وقفَ على الرصيف ينتظر حافلةَ التلاميذ التي أقلّته فور وصولها. ارتعدت فرائصُ أمّ جوزيف رعباً وظنّت أنّ البيتَ مسكونٌ من الجن، لكنّ الفضولَ جعلها تصمّمُ على معرفةِ من أين خرج ذلك الطفلُ فصعدتِ الدّرجَ ببطءٍ وهي تتلفّت حولَها إلى أن وصلتِ الطابقَ الثالث، وكانت دهشتُها كبيرةً حينما وجدت بابَ البيت مفتوحاً على مصراعَيه، والنوافذ محطّمةٌ، والريحُ تصفر في الصالونِ الذي سبق وأن جلسوا فيه منذ أسبوعٍ حيث بدا خاوياً من أي قطعةِ أثاث ،وتحوم فيه ثلاثُ قططٍ سوداءَ، فما كان منها إلا أن فرَّت على الفور قاصدةً بيتَها مذعورةً فجمَعَت بعضاً من أغراضِها الشخصيّة واستأجرت سيارة تكسي لتذهبَ بسرعةِ البرقِ إلى مكان مجهولٍ، دون أن تخبرَ أحداً من جيرانها. ولم يمضِ شهران حتى لحقَ بأمّ جوزيف جميع ساكني البناء هاربين تباعاً لاعتقادِهم المطلق بأن هناك جنّاً في البيت ، وبأنه من المحالِ أن يعودوا إلى مساكنِهم نظراً للحركاتِ المريبة والوجوهِ والشخوص التي تتراءى في الظلام، ما يدلُّ أنّ البيت مسكونٌ لا محالة.
فكّر أبو عبدو في الاتّصال بجيرانه القدامى للنظرِ في إمكانية بيع بيوتِهم ومغادرة البناء إلى غير رجعة، فاتصل أولاً بأم جوزيف، لكن رجلاً ادّعى أنه صاحب البيت الذي كانت أم جوزيف قد استأجرته أخبره أنها قد توفيت منذ شهرين بمرض مُعدٍ هي وزوجها وابنُها، وأنه لم يعرف عن موضوع الوفاة إلا من خلال عناصرِ مخفر الشرطة الذين اضطرّوا لخلع باب البيت بعد أن انتشرت منه رائحةُ الجيف النتنة نتيجةَ موتِ الثلاثة في البيتِ قبلَ أسبوع دون أن يشعرَ بهم أحد. عاد أبو عبدو فاتصل بأبي هشام، لكن هاتفَه كان مغلقاً. قال في نفسه: لمَ لا أتصل أولاً بأمّ غسّان فلعلّها تعرف شيئاً عما حصل لأمّ جوزيف، وبعدها أعيد محاولةَ الاتصال بأبي هشام. اتّصل على الفور بأم غسان فردَّ عليه رجل كبير السن قائلاً له أرجوك ألا تتّصل ثانيةً بهذا الرقم. قال له: أردتُ فقط الاطمئنان على السيدة أم غسان. قال كبير السن: حسناً ،يمكنك أن تزورَها في مشفى الأمراض العقليّة لتطمئنَّ عليها. عاد أبو عبدو إلى بيته يرتجفُ رعباً، وأخذ يقصّ على زوجته ما حصل مع أم جوزيف وأم غسان ما أثار الهلع في قلبها. قالت له وهي تبكي خائفة: طيب..وما أخبار أبي هشام؟ قال لها: اتّصلتُ به عدةَ مرّاتٍ لكن هاتفه مغلقٌ، ولا أعرف أين يسكن ، قالت له: حسناً سأصنع لك كأساً من البابونج يهدِّئُكَ. وبينما كانت زوجته في المطبخ تعدّ له كأس البابونج سمعَ من التلفاز أنّ طائرةً مدنيّة أسقطت بصاروخ أرض جو بالخطأ، وأن جميع ركابها قد لقُوا حتفَهم. قال في نفسه: ما هذا اليومُ العصيب؟؟ يكادُ يقضى عليّ من هول ما سمعت. في اللحظةِ ذاتِها جاءه هاتفٌ يقول: ألم تعرفْني؟ قال أبو عبدو: لا ،مَن أنت؟
قال الهاتف: أنا الذي كنتُ أقطن مع زوجتي في الطابق الثالث من البناء الذي كنتَ تسكنُ فيه،هل تذكرُني؟؟ بلع أبو عبدو ريقَه وتحشرجَ صوتُه :مممممن؟؟ مممن أنت؟؟ وماذا ترررريد مني؟؟ قال الهاتف: لا شيء، وددتُ فقط أن أخبرَكَ بأنّ جارك أبا هشام كان في تلك الطائرة التي أصيبت بصاروخٍ منذ قليل.
لحظات مرّت لتنفجرَ بعدها أسطوانةُ الغاز بزوجة أبي عبدو أثناء وجودِها في المطبخ ما أدى لمقتلِها. اشتعلت النيرانُ في أرجاء البيت لم يستطع معها أبو عبدو الفرارَ من الحريقِ وبدأت ملامحُ الغيبوبة تتسلّلُ إلى ملامحه، لكن الحياةَ عادت فدبّت به من جديدٍ بعد أن سمعَ إشعارَ رسالةٍ نَصيّةٍ على هاتفِه المحمولِ تقول له: استلم اسطوانة غاز من المعتمد غازي كازو خلال 48 ساعة.
*أديب وكاتب.. وزير التعليم العالي السابق- سورية