حنّبعل وجبال الآلب، العبور من التاريخ إلى الأسطورة .. نجيب البكوشي ..

بعد الحرب البونيقيّة الثانية التي دارت بين سنتي مائتين وتسعة عشر/ ومائتين وواحد (219- 201) ق. م، كانت الأمّهات في روما يرددن على مسامع أطفالهنّ كي يخلدوا للنوم العبارة اللّاتنيّة الشهيرة؛ “هانيبال أد بورتس” Hannibal ad portas أي “حنّبعل على الأبواب”.
لقد ورِث أطفال روما الخوف من القائد القرطاجي “حنّبعل” عن أمّهاتهم وأبائهم كما ورِثوا عنهم جيناتهم وأمجاد روما وهزائمها.
فمن هو هذا القائد العسكري الذي أصبح مادّة للأساطير وشغل الباحثين والمؤرّخين والقادة العسكريين على مرّ العصور؟
إنّه “هانيبال”أو”حنّبعل”Hannibal، إسمه يعني محبوب الاله في اللغة البونيقية، ولد سنة مائتين وسبع وأربعين (247) ق. م بمدينة قرطاج، والده “أميلكار برقا” Hamilcar Barca قائد القرطاجيين خلال الحرب البونيقيّة الأولى التي دارت بين سنتي مائتين وأربع وستين/ومائتين واحدى وأربعين(264-241) ق. م، والّتي إنتهت بهزيمة أسطول قرطاج، وفقدان جزيرة صقليّة، وزيادة النفوذ الروماني في حوض البحر الأبيض المتوسّط، الّذي أطلق عليه الرومان منذ ذلك الحين إسم “ماري انتارنوم نُسترُوم” Mare Internum Nostrum أي “بَحْرَنا الداخلي”.
رافق حنّبعل وهو لا يزال طفلا والده “أميلكار برقا”، وصهريه “صدر بعل العادل”، والامير النوميدي “نارافاس” Naravas في حملة الجيش القرطاجي على شبه الجزيرة الإيبيريّة (إسبانيا اليوم) سنة مائتين وست وثلاثين (236) ق. م. يروي المؤرّخ الروماني Titus Livius أو Tite Live “تيتوس ليفيوس”، أنّ “أميلكار” اشترط على إبنه “حنّبعل” قبل أن يصطحبه إلى جبهة القتال أداء قسم الكراهيّة لروما أمام العرش المهيب للاله “بعل حامون” Ba’al Hammon، كبير آلهة قرطاج.
بعد أن أخمد إنتفاضة داخليّة كبيرة عُرفت بحرب المُرْتَزَقة، وبسط نفوذ قرطاج على جزء كبير من شبه الجزيرة الإيبيريّة، أصبح “أميلكار برقة” بطلا شعبيّا عند القرطاجيين، وأكسب عائلة “برقة”، وكلمة برقة تعني الصاعقة باللغة البونيقيّة، مكانة خاصّة في قلوبهم. أراد القرطاجيون بتوسّعهم غربا وبسط نفوذهم على سواحل الجزائر والمغرب حاليا و شبه الجزيرة الإيبيريّة محو أثار هزيمة أسطولهم أمام أسطول روما خلال الحرب البونيقيّة الأولى. يُذكر ان الأسطول الروماني أُنشئ بعد أن فكّك الرّومان شِفرة صناعة السفن الحربيّة، عندما استولوا قبل سنوات على سفينة قرطاجيّة انحرفت عن مسارها في البحر لتصل مقابل سواحلهم.
إثر وفاة القائد القرطاجي “أميلكار برقة” سنة مائتين وثماني وعشرين (228) ق.م في إحدى المعارك، خلفه صهره “صدر بعل العادل” في قيادة الجيش، وعيّن إبنه “حنّبعل برقة” مساعدا له وهو لم يبلغ بعد ربيعه العشرين، وبسرعة فائقة أظهر القائد الشاب “حنّبعل” مهارات عسكريّة كبيرة وحنكة سياسيّة عالية ممّا جلب له إحترام جنوده وتقديرهم. الجيش القرطاجي في قرطاجنّة بشبه الجزيرة الإيبيريّة لن يتوان لحظة واحدة في اختيار حنبعل برقة قائدا له بعد إغتيال “صدر بعل العادل” سنة مائتين واحدى وعشرين(221) ق.م، وأقرّت حكومة قرطاج فيما بعد هذا الاختيار رغم معارضة خصومه من الأَرُستقراطيين القرطاجيين.
قام حنّبعل بتدعيم نفوذ قرطاج في شبه الجزيرة الإيبيريّة ووطّد علاقته مع القبائل المحليّة من خلال زواجه بالأميرة الإيبيريّة “إميليس” Imilice، ولم ينس العهد الّذي قطعه على نفسه لوالده أمام الاله “بعل حامون”، وهو أن لا يكون أبدا صديقا لروما الّتي أهانت قرطاج بعد هزيمتها في الحرب البونيقيّة الأولى، وفرضت عليها معاهدة “قاتالوس” المُجحفة.
خطّط “حنّبعل” لاستدراج روما لمواجهة عسكريّة، فضرب حصارا خانقا على حليفتها مدينة “ساغنتوم”Saguntum أو Sagonte في سنة مائتين وتسع عشرة (219) ق.م، مستغلاّ تردّد القادة الرومان في نجدتها. يذكر المؤرّخون الجملة الشهيرة لمبعوث “ساغنتوم” لروما: ” عندما كنّا نتجادل في روما كانت “ساغنتوم” تسقط”، وبالفعل سقطت “ساغنتوم” بعد ثمانية أشهر من حصار الجيش القرطاجي. كان “حنّبعل” يدرك أنّ الحرب مع روما قادمة لا ريب فيها، فالمتوسّط لا يحتمل أكثر من سيّد واحد. السيطرة على مدينة “ساغونتوم” كانت شرارة بداية الحرب البونيقيّة الثانية بين قرطاج وروما، يسمّيها بعض المؤرّخين بحرب “حنّبعل”، لأنّ “حنّبعل برقا” هوّ من خطّط لها وهو الذي قادها، وكأنّ الرجل وُلد فقط ليخوض هذه الحرب، وليكون الكابوس المزعج لروما طيلة ثمانية عشر عاما.
فما هيّ أطوار الحرب البونيقيّة الثانية؟..
قام “حنّبعل” بمعيّة هيئة أركان جيشه، المتكوّنة من شقيقيه “ماجو وصدر بعل برقة” وقائد الفرسان النوميدي “مهر بعل” Maharbal، بتجهيز جيش جرّار قدّره المؤرّخ اليوناني “بوليبيوس” Polúbios او Polybe بحوالي تسعين ألفاً من الجنود المشاة و اثنا عشر ألفاً من الفرسان و سبع وثلاثين فيلا حربيّا. كان “حنّبعل” مدركا لتفوّق أسطول روما البحري على أسطول قرطاج، لذلك فلا سبيل إلى التفكير في مهاجمتها بحرا بل كان عليه أنّ يعدّ خطّة عسكريّة لغزوها برّا.
خطّة القائد القرطاجي لها وجهان مثل “جانوس” Janus حارس أبواب السماء عند الرومان، وجه للحكمة ووجها للجنون. وجهه الحكمة، أنّه سوف ينقل المعركة إلى أرض العدوّ، حيث كان يردّد على مسامع قادة جيشه: ” في حالة وصولنا لنهر “البو” قبل فوات الأوان، نستطيع أن نمسك بتلابيب جيوش الغزو داخل روما نفسها، فلا تصبح مدينة قرطاج ميدانا للحرب، وحينئذ تقع تكاليف الحرب ولأوّل مرّة على الرومان وعلى بلادهم، فيكتوون بآلامها، ويُحرقون بنارها، فالسرعة ثمّ السرعة”. أمّا وجه الجنون في خطّته، وهو ما لم ينتظره منه الرومان، فهو مسيرته الكبرى من قرطجانّة ( قرطاج الجديدة في شبه الجزيرة الإيبيريّة ) إلى شمال إيطاليا على رأس جيش بعشرات الألاف من الجنود وألاف الفرسان وعشرات الفيلة الحربيّة.
قاد “حنّبعل” جيشا متعدّد الأعراق واللّغات والثقافات والخبرات العسكريّة بحكمة وشجاعة نادرتين، الجزء الأساسي من جيشه كان من الجنود المُرتَزَقة ذوي القدرات القتاليّة العالية، المشاة كانوا من شبه الجزيرة الإيبيريّة يستخدمون بمهارة السيف المقوّس المعروف بسيف “الفلكاتا”، أمّا الفرسان فكانوا من النومديين يقودهم الفارس النوميدي الحكيم “مهر بعل”، ودعّم حنّبعل جيشه برماة الحجارة والمنجنيق الّذين جلبهم خصّيصا من جزر “البليار”. أمّا مفاجأة حنّبعل العسكريّة الّتي أثارت ضجةّ كبيرة، وأسالت حبرا كثيرا فهي الفيلة الحربيّة الّتي لم تعبر به جبال الألب فحسب، بل عبرت به أيضا من التاريخ إلى الأسطورة.
الجيش القرطاجي سوف يقطع مسافة تقدّر بحوالي الألف ميل، لا شيء سوف يوقفه في طريقه إلى روما، لا كمائن القبائل الغاليّة المتوحّشة، ولا فيالق الجيش الروماني الّتى حاولت عبثا صدّه، ولا ثلوج الشتاء القارس، ولا جبال البيريني Pyrénées ولا نهر “الرّون” Rhône، ولا جبال الآلب Alpes الّتي كانت تُعتبر سور روما وهبة السماء الّتي تحميها من الغزاة.
إنّ عبور “حنّبعل” بجيشه لجبال الألب الّتي ترتفع في بعض نقاطها إلى حدود أربعة آلاف وتسعمائة متر كان عبورا ميثولوجيّا، أقرب إلى فعل أنصاف الآلهة منه إلى فعل البشر، ورغم خسارته لآلاف الجنود في ملحمة العبور تمكّن الجيش القرطاجي من تحقيق انتصارات عسكرّية باهرة على أكبر جيش على وجه الأرض وقتئذ في مدّة لا تتجاوز ثمانية عشر شهرا، أوّلها كانت في معركة نهر “تيتشينو”، الّتي جُرح فيها القنصل الروماني قائد الجيش “بوبليوس” Publius وكان فيها الدور الحاسم للفرسان النوميديين بقيادة “مهر بعل”، وثانيها معركة نهر “تريبيا” الّتي إختار فيها “حنّبعل” أرض المعركة عملا بحكمة والده أميلكار القائلة: “في الحرب، دع الأرض تقاتل عنك”، وكان هذا النهر بأوحاله ومياهه الباردة الفخّ الّذي وقع فيه الجيش الروماني بقيادة القنصل الجديد “تيبيريوس سامبرونيوس” Tiberius Sempronius. قدّر المؤرّخ “تيتوس ليفيوس”، Titus Livius خسائر روما في هذه المعركة بحوالي عشرين ألف جنديّ، أمّا خسائر القرطاجيين فلم تتجاوز عشر هذا العدد. جلبت الانتصارات العسكريّة المتتالية للجيش القرطاجي حلفاء جددا من الشعوب والقبائل والمدن الّتي كانت ترزح تحت نير الهيمنة الرومانيّة.
حنّبعل لم يكن قائدا عسكريّا ميدانيّا فحسب بل كان سياسيّا وديبلوماسيّا ماهرا، رسله ومبعوثيه كانوا يردّدون على مسامع زعماء المدن والقبائل الإيطاليّة مقولته الشهيرة: ” جئت هنا ليس لمحاربة الإيطاليين بل لمحاربة روما بإسم الإيطاليين”، فكان يطلق سراح كلّ الجنود الَّذِينَ يأسرهم في المعارك من غير الرّومان ليصبح في عيون قبائلهم وشعوبهم محرّرا وليس غازيا، وحليفا ضدّ بطش روما، فإنضمّ إلى جيشه آلاف المقاتلين والفرسان الأشدّاء من بلاد الغال وعدّة مدن أخرى في شمال إيطاليا.
لن يتأخّر الردّ الروماني على هذا الزحف القرطاجي فقام القنصلان الجديدان؛
“فلامينيوس”و”جيمينوس” بقيادة جيشين كبيرين لمنع وصول الجيش القرطاجي إلى روما، ولكنّ ” حنّبعل” نصب كمينا محكما لجيش القنصل “فلامينوس” في بحيرة “ترازيمانو” ذهب ضحيته حسب المؤرّخ “بوليبيوس” Polúbios (خمسة عشر ألفا) جندي روماني وعلى رأسهم قائدهم القنصل،”فلامينيوس”، سوف يحفظ التاريخ خطاب القنصل الروماني “بومبونيوس ماثو” Pomponius Matho أمام الجماهير المذعورة في ساحة الفوروم بروما والذي جاء في إثنتي عشر كلمة وقال فيه: ” لقد قهر العدو جيوش روما في موقعة عظيمة مات فيها أحد القنصلين”.
أثارت الهزائم المتتالية للجيش الروماني أمام “حنّبعل” زلزالا سياسيا مدويّا في روما، حيث قرّر مجلس الشيوخ تعليق العمل بالجمهوريّة والقيادة المزدوجة للقنصلين وتعيين “فابيوس مكسيموس” دكتاتورا له صلاحيات سياسية وعسكريّة مطلقة لمدّة ستّة أشهر. اعتبر الرومان أنٌ هزائمهم العسكريّة هي نتيجة غضب آلهتهم، فقدّموا ثلاثمائة ثور قربانا لاله السماء والبرق “جوبيتير” Jupiter، وتعهّدوا بتقديم كلّ محاصيل تلك السنة قرابين لاله الحرب “مارس” أو المرّيخ Mars. كان الدكتاتور الروماني الجديد “فابيوس” على يقين بأنّ هزيمة “حنّبعل” تكاد تكون أمرا مستحيلا، فقرّر عدم مواجهته عسكريّا بصورة مباشرة، ووضع خطّة حرب إستنزاف طويلة لإنهاك الجيش القرطاجي، أثارت خطّة “فابيوس”،الّتي تعرف اليوم في القاموس العسكري بإستراتجية “فابيان” Fabien strategy، سخط الرومان تجاهه حيث نُعت بالجبان والمؤجّل لأنّه كان في كلّ مرّة يؤجّل المواجهة المصيريّة مع “حنّبعل”.
سنة مائتين وست عشرة (216) ق.م قرّر القنصلان الجديدان في روما ” كايوس فارو” Caius Varro و ” لوسيوس بولوس” Lucius Paullus وضع حدّ لخطّة “فابيوس” الدفاعيّة، وحشد جيش كبير لمواجهة عسكريّة حاسمة ضدّ الجيش القرطاجي الّذي تمكّن من السيطرة على مخازن حبوب الجيش الروماني بمنطقة ” كاناي” أو Cannes في الجنوب الإيطالي. المؤرّخ اليوناني “بوليبيوس” Polúbios تحدّث عن ثمانين ألف من المشاة وستة آلاف فارس في حين لم يكن تحت إمرة القائد القرطاجي حنّبعل سوى نصف هذا العدد من الجنود. القنصل الروماني “كايوس فارو”Caius Varro الّذي كان متهوّرا، وقليل الخبرة العسكريّة سوف يختار مواجهة “حنّبعل” على أرض مفتوحة كي لا يقع في كمائن الجيش القرطاجي كما وقعت جيوش روما في المعارك السابقة.
في الثاني من شهر أغسطس سنة مئتين وستة عشر(216) ق.م، وقرب نهر “أوفيديوس” سوف تدور معركة “كاناي العظمى” الّتي لازالت إلى يومنا هذا تدرّس في المدارس العسكريّة. تمكّن الجيش القرطاجي في هذه المعركة بقيادة حنّبعل من سحق الجيش الروماني بإستعمال حيلة الإستدراج والتطويق.
ذكر المؤرّخ “بوليبيوس” أنّ خسائر الجيش الروماني بلغت حوالي سبعين ألف قتيل، في حين قدّرها المؤرّخ “تيتوس ليفيوس” بحوالي خمسين ألف قتيل، وفي المقابل لم تتجاوز خسائر الجيش القرطاجي الستة آلاف قتيل. ميدان معركة كاناي في جنوب إيطاليا لازال يسمّى إلى اليوم بميدان الدماء Campo de Sanguin.
انهزمت روما، ولكنّ قادتها رفضوا الاعتراف بالهزيمة وإمضاء معاهدة صلح مع “حنّبعل” كما جرت به أعراف و نواميس الحروب في ذلك العصر. طلب “مهر بعل” بعد انتصار كاناي من حنّبعل الزحف على روما واعتبره الحلّ الأنسب لإجبار الرومان على الإستسلام نهائيّا، ولكنّ للأسف “حنّبعل” لم يشاطره الرأي فردّد “مهر بعل” مقولته الشهيرة: “حنّبعل لقد حبتك الآلهة بنعم كثيرة، فأنت تعرف كيف تحرز النصر، ولكنّك لا تعرف كيف تستخدمه”. وبالفعل أنصف التاريخ القائد النوميدي، وأعادت روما بناء جيشها وتجهيزه في وقت وجيز جدا.
بعث “حنّبعل” بشقيقه الأصغر “ماغون” لطلب الإمدادات العسكريّة من قرطاج لمواصلة الحرب على روما، ولكن مجلس الشيوخ القرطاجي رفض طلبه، وكلّف “ماغون” بالالتحاق بقيادة الجيش القرطاجي في شبه الجزيرة الإيبيرية. كانت طبقة التجار الأوليغارشيين تنظر بعين الريبة لتوسّع نفوذ عائلة “برقة”، ولتزايد شعبيّة “حنّبعل” لدى القرطاجيين بعد أن بلغت إلى مسامعهم أخبار انتصاراته على جيوش روما، فعمدت إلى عرقلة كلّ الجهود لدعمه عسكريّا، وردّد خصومه أنّه “إذا كان حنّبعل ينتصر فهو لا يحتاج إلى المساعدة، وإذا كان لا ينتصر فهو لا يستحقّ المساعدة”. سنة مئتان وسبعة (207) ق.م تمكّن شقيقه “صدر بعل”من عبور جبال الآلب على رأس جيش كبير للالتحاق به، ولكنّه وقع في كمين نصبه له الجيش الروماني وقُتل في معركة ” ميتوريوس” Métaure، ثمّ قُطع رأسه ووُضع في كيس، ورُمي به أمام معسكر شقيقه حنّبعل، وكان لهذه الحادثة أثر كبير على نفسيّة القائد القرطاجي، الّذي بقي طيلة سبع سنوات محاصرا في إيطاليا دون أن يصله أي دعم عسكري من قرطاج فتقلّص جيشه عددا وعدّة.
استغلّ القائد العسكري الروماني ” سكيبيو أو سيبيون” Scipio أو Scipion، الّذي فقد والده وعمّه في الحرب ضدّ القرطاجيين، هذا الارتباك السياسي والعسكري القرطاجي ليقنع قادة روما أنّه لالحاق الهزيمة بحنّبعل وإجباره على الإنسحاب لا بدّ من تطبيق نفس خطّته العسكريّة وذلك بنقل المعركة لأرض قرطاج، فقام الجيش الروماني تحت قيادته في مرحلة أولى بغزو شبه الجزيرة الإبيريّة وتدمير قرطاجنّة بالكامل ثمّ توجّه سنةمائتين وأربع(204) ق.م من جزيرة صقليّة على رأس جيش بخمسة وثلاثين ألف جنديّ لمحاصرة قرطاج وإجبار “حنّبعل” على العودة لحمايتها.
عقدت روما تحالفا عسكريا مع القائد النوميدي “ماسينيسا”، الّذي كان في السابق حليفا لقرطاج، ولكنّ مساندة هذه الأخيرة لخصمه النوميدي “سيفاكس” Syphax دفعته للتحالف مع القائد الروماني ” سيبيون”، وأمام تتالي هزائم الجيش القرطاجي بقيادة ” صدر بعل جيسكو” Hasdrubal Giscot، إضطرّ مجلس الشيوخ إلى دعوة ” حنّبعل” للعودة من إيطاليا لإنقاذ قرطاج من الغزو الروماني/ النوميدي فكانت معركة “زامة”Zama الشهيرة الّتي سوف تحدّد مصير حنّبعل وقرطاج معا.
سنة مائتين واثنين(202) ق.م دارت معركة زامة الحاسمة في الحرب البونيقيّة الثانية بين الجيش القرطاجي بقيادة “حنّبعل”، الّذي قدّره المؤرّخ “بوليبيوس” بأربعين ألف من الجنود المشاة و أربعة آلاف من الفرسان و ثمانين فيلا حربيا، أمّا الجيش الروماني وحليفه النوميدي “ماسينيسا” فقد قُدّر بتسعة وعشرين ألفا من الجنود المشاة و ستة آلاف فارس، أساسا من النوميديين.
“سيبيون” Scipion الّذي أصبح منذ ذلك الحين يلقّب بسيبيون الإفريقي Scipion l’Africain نسبة إلى حملته العسكريّة على إفريقيّة، يعرف جيّدا القائد القرطاجي حنّبعل، فهو من القادة العسكريين الرومان القلائل الّذين نجوا من معركة “كاناي” الّتي دارت منذ أربعة عشر عاما في جنوب إيطاليا، لذلك رسم خطّة للحدّ من خطورة الفيلة الحربيّة الّتي كانت في طليعة الجيش القرطاجي، حيث أمر جنوده المشاة بإحداث صخب بالأبواق وفتح ممرّات بينهم لتمرّ منها الفيلة الهائجة دون أن تهاجمهم، بل إنّ بعضها إستدار لمهاجمة الجنود القرطاجيين ممّا أربك خطّة حنّبعل العسكريّة منذ البداية، ثمٌ فيما بعد كان لفرسان ماسينيسا النوميدي دور حاسم في تطويق الجيش القرطاجي وإلحاق أوّل هزيمة بقائده “حنّبعل”.
هزيمة “زامة” كان من نتائجها خسارة قرطاج لكلّ أراضيها بشبه الجزيرة الإيبيرية والتخلّي عن أسطولها البحري وإطلاق سراح كل الأسرى الرومان و التعهّد بعدم إعلان الحرب إلاّ بموافقة روما ومنح كلّ الأراضي النوميدية لماسينيسا.
أصبح “حنّبعل” حاكما لقرطاج سنة مائة وستة وتسعين(196) ق.م لمدّة عام واحد وأراد القيام بإصلاحات سياسيّة وإقتصاديّة للنهوض بها بعد الحرب ولكنّه اصطدم بطبقة التجار الأوليغارشيين بقيادة “هانون الأكبر” Hannon le Grand الّذي وشى به للرومان ممّا اضطرّه للفرار إلى امبراطور سوريّة “أنطوخيوس الثالث” خصم روما، ثمّ إلى مملكة “أرمينيا” حيث وضع حدّا لحياته بتناول السمّ بعد أن تفطّن أنّه تعرّض للخيانة، وسوف يسلّم إلى روما.
“حنّبعل برقة” من القادة العسكريين القلائل الّذين غيّروا مجرى التاريخ، ينام اليوم في تركيا، في أرض غير أرضه و في وطن غير وطنه، العالم بأسره ينحني أمام ما أنجزه، للأسف أحفاده في تونس يجهلونه. “نابليون بونابرت” Napoléon Bonaparte كان يعتبره مثله الأعلى ومن أعظم القادة العسكريين في تاريخ الإنسانيّة.
قد نتساءل، لماذا نجح الفرنسيون في صنع أيقونة “بونابرت”، وفشلنا نحن في صنع أيقونة “حنّبعل”؟ الأدب الفرنسي حوّل الهزيمة العسكريّة لبونابرت في معركة “واترلو” Waterloo الشهيرة إلى انتصار حضاري وثقافي لفرنسا. لماذا لم تكتب أقلامنا حول ملحمة قرطاج رواية في روعة رواية ” صلامبو” Salammbô للكاتب الفرنسي Gustave Flaubert غوستاف فلوبير ؟ ولماذا لم ترسم ريشة أحد رسّامينا لوحة في جمال لوحة الرسّام الإنجليزي “وليام ترنر” William Turner، التي أطلق عليها إسم “عاصفة الثلج أو حنّبعل يعبر الآلب” Tempête de neige ou Hannibal traversant les Alpes أو لوحة الرسّام الإسباني الشهير “فرانسيسكو دي جويا” Francisco de Goya المسمّاة: ” حنّبعل المنتصر يتأمّل للمرّة الأولى إيطاليا من جبال الآلب”؟.
الرومان بعد الحرب البونيقيّة الثالثة والتي دارت بين سنتي مائة وتسع وأربعين/ومائة وستة وأربعين ق.م دمّروا مدينة قرطاج، ورشّوا أرضها بالملح كي لا تنبت زرعا، والتونسيون للأسف الشديد بدورهم رشّوا ذاكرتهم الجماعيّة بملح النسيان، وكأنّهم أرادوا محو هذا الإرث الفنيقي القرطاجي العظيم. أخذوا حجارة قرطاج ليشيّدوا بها مدينة تونس ولكنّهم تركوا روح قرطاج خارج أسوار عاصمتهم الجديدة.
لنصالح أطفالنا مع تاريخهم ولنقل لهم أنّ “هانيبال أد بورتس”، أي حنّبعل على الأبواب، ليس ليخلدوا للنوم خوفا كأطفال روما بل ليستيقظوا من سباتهم العميق، ويجعلوا منه بطلا ونبراسا لانتصارات قادمة.
*نجيب البكوشي كاتب وباحث تونسي.