حدَثَ في ألمانيا.. د.محمد عامر المارديني

|| Midline-news || – الوسط …
.
عانيتُ كثيراً كي أجدَ مرجعاً علميّاً منشوراً يؤكّدُ أو ينفي ما توصّلَت إليه إحدى تجاربي الأخيرة لأتمّمَ بها كتابةَ رسالةِ الدكتوراه، لكنّ الأمر كان بالغ الصعوبةِ.
ومساءَ يومٍ شتويٍّ عاصف من عام 1987، انطلقتُ إلى مكتبة الجامعة قبل أن تغلقَ أبوابَها لأبحثَ عن مرجعٍ يساعدني في مقصدي.
كان الرعدُ يقصف، والبرقُ يلمعُ والعاصفةُ هوجاءَ كادت ريحُها تحطّمُ جذوعَ الأشجار، وبدَتِ الدنيا كمن أصابه مسٌّ من هستيريا! ورغم ذلك، فقد كابدتُ الرياحَ والبردَ القارس في سبيل الوصول إلى ما أصبو إليه.
دخلتُ المكتبة بعد أن خلعت معطفي وقبّعتي، ورميت مظلّتي جانباً لكنّي لم أجد أحداً فيها بالرغم من أنّ الأضواء كانت تسطعُ في كلِّ أرجائها.
التفتُّ يمنة ويسرة عَلِّي أجدُ من يكلّمُني أو يؤنسُ وحدتي ولكن.. بلا طائل.
أخذتُ أتنقّلُ بين زوايا المكتبة أنظرُ هنا وهناك على الرّفوف الملأى كتباً ومجلاتٍ ذواتِ أرقامٍ وأحرفٍ ربما عنَت ترتيباً ما لوجودها.
وبينما أنا واقف عند أحد الرفوف إذ بي أشاهد رجلاً في الثلاثينيات من العمر، ذا وجه مستدير ورديِّ اللون، وعينين زرقاوين وشعرٍ أشقر يصعَد سلّماً قصيراً يستعين به ليرتّبَ كتبَ أحدِ الرفوف العالية، وبدا كأنّه أمينُ المكتبة أو المسؤولُ عنها. نزل المتسلّقُ عن سلّمه إلى الأرض فحيَّيتُه تحيةَ المساء ثمّ طلبت منه أن يدلَّني إلى مكان المرجع الذي أبحث عنه.
قال انظرني حتّى آتيَ ببطاقات الكتب والمراجع التي تملكُها مكتبتُنا، فهي مرتّبة أبجديّاً وسنجدُ مرجعَك في حال وجوده.
وبالفعل عاد مسؤولُ المكتبة من غرفته رافعاً البطاقةَ بيده كمَن يبشرُني بعلامةِ النصر، ثم اصطحبَني إلى مكان المرجع ليسألَني إن كنت راغباً في استعارته، أو تصفُّحِه فقط هنا في المكتبة ،فأجبته بأنني سأتصفّحه أوّلاً ثم أقرّرُ بعدها إما الاستعارة أو عدمَها.
جلستُ وفتحت المرجعَ على طاولة كانت بقربِ سلّم المسؤول الذي عاود صعودَه ليستكملَ ترتيبَ الرفوف.
وبينما أنا غارقٌ في القراءة سمعت وقعَ اصطدام قويٍّ لجسمٍ بالأرض. رفعتُ رأسي ليفزعني منظرُ المسؤول وهو مفترشٌ الأرضَ على بعض الكتب التي سقطَت عن الرفوف بوجه مصفرٍّ كالليمون، وأسنانُه تصطكُّ كمطحنةٍ، والزبَدُ يخرج من بينها كفقاعات الصابون، أما يداه وقدماه فكانت تنتفضُ كما النعاج عند ذبحِها، ثم ما لبث أن انبجسَ الدمُ من أنفه وفمه، فلطّخَ الأرض والكتبَ بحمرةٍ قاتمة، وللحظةٍ خُيّلَ إليَّ أنه فارقَ الحياة.
تسمّرتُ في مكاني وجمدَ الدم في عروقي وتملّكني خوفٌ شديد. وضعتُ يدي على فمي أكتمُ صرخةً كادت تعلو في الأرجاء، لكنّني تمالكتُ نفسي خشيةَ أن يجتمعَ الناس ويظنّوا بأني قاتلُه كما هو راسخٌ في أذهانِنا أنّ الألمان يكرهون من هُم ليسوا من قوميّتِهم وخاصةً نحن العرب!
آثرتُ في تلك اللحظات أن أتوارى عن الأنظار بيدَ أنّ ساقيَّ لم تقدرا على حملي، ما جعلني أتسلّلُ على رؤوسِ أصابعي تاركاً المرجعَ على الطاولة، ومترقّباً في الوقت نفسِه أيَّ حركة غيرِ اعتيادية في المكتبة، إلى أن خرجتُ منها حاملاً معطفي ومظلّتي أركضُ هائماً على وجهي كمَن يطيرُ في الهواء بلا وجهة محدّدة.
وصلتُ إلى البيت مذعوراً تسري في جسدي رعشةُ الخوف والهلع لتسألَني زوجتي ملهوفةً عمّا يعتريني من اضطرابٍ،
قلت لها: دثّريني، ففعلتْ..
ثم طلبتُ منها ماءً فأحضرَته على الفور وهي تنتظرُ مني بفزع أن أخبرَها كلَّ الحكاية.
سردتُ لها ما حصل، وختمت بالقول : إن نهايتي باتت محتومةً في سجون ألمانيا، وإن الحصول على شهادة الدكتوراه أصبحَ في علمِ الغيب لأن لا أحد سيصدقُ روايتي عن مقتل الموظّف.
قالت لي بقلق: وماذا أنت فاعل الآن؟؟
قلت لها : سأذهبُ إلى سريري،
أشعر أنّي مريض، قولي لمن يتصل أو يسأل عني إنني مريض، أ فهمتِ؟؟ أنا مرررررريض.
اضطجعتُ على سريري أكابدُ الأرقَ، لكن ما إن كدتُ أستسلم للنوم، حتى قفزتُ كالمجنون من جديد، فقد تذكرتُ أنّني قد نسيت قبّعتي هناك في المكتبة عند طاولة الاستقبال.
يا ويحي سيُفتَضَحُ أمري، هي ساعات فقط وسيحضر الأمن لاعتقالي! صحيح أنّ قبعتي يباع منها الآلافُ في ألمانيا لكن قبعتي يميّزُها شعارُ الكلية التي أنتسبُ إليها. مؤكّد سيسألون عن ذلك، وسيكتشفون بسهولة أنّها لي. يا إلهي، إنها خاتمتي غيرُ السّعيدة..
ترقرقتِ الدّمعةُ في عيني، وصرتُ أحدِّثُ نفسي أن سامحوني يا أهلي ويا عائلتي، يا أصدقائي ويا جامعتي، واللهِ أنا بريء، والله لم أقتلْه، لقد سقط من تلقاء نفسِه،
سلّمتُ أمري إليك يا الله.
ساعاتٌ مضت، ويتصل بي زميلي وصديقي هايكو هاتفياً على غيرِ العادة، يسأل عن سبب عدم حضوري إلى المخبر لإنجاز بعض التجارِب معه، فاعتذرت منه بعد أن حشرجتُ صوتي مشعراً إياه بمرضي ليعودَ وينصحَني بالذهاب إلى طبيب وأخذِ إجازة صحيّة رسمية منعاً لغضبِ أستاذنا المشرف الذي يكرهُ التأخرَ وإن لدقائقَ عن العمل، أمّا الغيابُ فمرفوضٌ عنده جملةً وتفصيلا!
أصابني الاكتئابُ، فكيف لي أن أذهبَ إلى الطبيب وليس في جسمي علةٌ، لأتذكرَ فجأة ألمَ الحصاة الكلويّة التي طالما عكّرَت صفوَ حياتي فآثرتُ فعل التمثيل عند الطبيبِ بأنني مريض، وهكذا كان.
تحملت منه على مضض حقنةَ المسكّن بعد أن طلب لي بعض التحاليلِ المخبرية ،ثم منحني بعدها استراحةً في المنزل لمدة ثلاثةِ أيام أراجعُه بعدها لمعرفة ماذا سيحلُّ بي.
وأثناء عودتي إلى المنزل قمت بشراءِ جميع الصحف اليومية، وتصفّحتُها على عجل، وفتحت كذلك التلفاز والمذياع أنصتُ جيداً على كلِّ كلمة قد توحي بجريمةِ قتل حدثَت في مكان ما في المدينة.. ولكن لا، لا خبر عن أية جريمة.
هاهو اليوم الثالث يمضي بعد تلك الواقعة ولم يصل إلى مسمعي أيُّ شيءٍ مريب.
قلت في نفسي: لمَ لا أرسل زميلي الألماني إلى المكتبة بحُجّة أن يأتيَني بالمرجعِ المطلوب، فلربّما أستعلمُ منه بعضَ ما خفي عن موتِ رجل المكتبة، وهكذا كان.
تركتُ زوجتي تتصلُ به وتطلب منه ما أردتُ، متعلّلةً بتوعُّكي، فقال لها: على الرحب والسعة، غداً سيكون المرجع بين يديه.
وفي صباح اليوم التالي يتصل صديقي مستغرباً فيقول لي: أليستِ القبعةُ التي وجدتُها في المكتبة مركونة على الطاولة هي قبعتك؟
لم أعرف بماذا أجيبه وارتبكت أيّما ارتباك و قلت متظاهراً بالدهشةِ:
قبّعتي؟؟ قبعة ماذا؟؟ ماذا تقول؟؟
قال: نعم هي قبعتُك أميِّزُها من بين ألف قبعة.
ارتبكتُ للحظات ولكنّي استجمعتُ تماسكي وصرختُ عالياً:
ألو.. ألو، أنا لا أسمعك، ثم أقفلتُ السماعة وسحبتُ شريط الهاتف منعاً لأيّ اتّصالٍ لاحق.
مضتِ الساعاتُ ثقيلةً كادت تقتلُني ببطئها، فالهواجسُ كثيرة ولا أثرَ لأيّ علامةٍ مطمئِنة، وما زادَ الطينَ بلةً قرعُ جرس الباب، إذ خفق القلب بشدةٍ من الخوف لتفتحَ زوجتي البابَ ويظهر لها شابٌ بلباس العمّال يطلب منها دخولَ المنزل لإصلاحِ تمديدِ المياهِ المالحة التي تقطرُ على الجيران القاطنين أسفلَ بيتنا.
ولا أعرف كيف تراءى لي أنه عنصرُ أمن جاء يعتقلُني أو ليبحثَ عن دليل ما يثبتُ تورُّطي في جريمة القتل.
انتهتِ الأيامُ الثلاثةُ التي منحني إيّاها الطبيبُ للاستراحة، فعدت إليه ليسألَني عن التحاليل المخبرية، وإن كان هناك أيُ مضاعفات قد عانيتُها خلال وجودي في المنزل، فقلت له إن أموري بخير، وعدت لأكذبَ بأنّ حصاةً صغيرة أحسست بها وهي تنزلُ مع مجرى البول ما جعل الذهابَ إلى مخبر التحليل غيرَ مُجدٍ وقد تحسّنَت حالي، لكنّي عدت فطلبت منه منحي يومي استراحة إضافيّين أعود بعدهما إلى العمل لأنني ما زلت محتاجاً للراحة ففعل.
لم أستطعِ الانتظارَ أكثرَ فقرّرت الذهابَ في اليوم التالي لتقصّي الوضع قرب المكتبة ملثَّماً وكأن البردَ هو السبب، لكنني لم ألحظْ شيئاً غيرَ اعتيادي. اقتربتُ أكثر من بناء المكتبة إلى أن وصلت الباب متلفّتاً يمنة ويسرة خشية أن يكون أحدٌ ما يتبعني. مددتُ رأسي إلى داخل المكتبة عبرَ الباب لأرى العديد من روادِ المكتبة على الطاولات يقرؤون أو يكتبون، لكلِّ امرئ شأنٌ يغنيه، أمّا الهدوءُ فكان السِّمةَ الوحيدة الطاغية.
وضعت لثامي ومعطفي في الأماكن المخصّصة لذلك، ثم لبست نظارةً شمسيّة على غير المألوف في الأماكن المغلقة متعمّداً إخفاءَ جزء من شخصيتي، ومشيت أتفحّص رفوفَ الكتب والمجلات بعين وباحثاً بالعين الأخرى عن شيء يعيدني بالذاكرة إلى تلك اللحظة المشؤومة، أعرف من خلالها شيئاً ما عن ذلك القتيل.
رفعت نظري قليلاً ، فيباغتني منظرُ مسؤول المكتبة نفسِه الذي سقط أرضاً بلا حراك. تجمّد الدم في عروقي، ولم أعرف ماذا أفعل..
هل أفرح برؤيته حيّاً أم أحزن على منظره المؤلم، فقد كان معصوبَ الرأس بفمٍ وأنف منتفخَين، لكنه ما زال يعمل بكل إخلاص.
وما إن نزل عن السلم حتى اقتربتُ منه فحييته وتمنيت له السلامة بعين رقرقَ الدمع فيها. قال لي وهو يلثغ نظراً لتحطّم ثنيّتيه: ماذا تريد؟
قلت له وكأني لا أعرف شيئاً عما حصل له: ماذا حلّ بك يا سيد؟
قال بكل ثقة: لاشيء يهمّ، وقعتُ عن السلم وأنا أرتّب رفوف المكتبة، وكل شيء على ما يرام.
أذهلتني رباطةُ جأشه.. كيف حدّثني وكأنّ شيئاً لم يكن؟؟ وكيف عاد إلى عمله بكلِّ ثقة بالنفس؟؟
قلت له: هل لي أن أحصل على هذا المرجع (أريته الاسم)؟
قال: بالطبع، ثوانٍ ويكون بين يديك.
عدت أناور لأعرفَ كيف نجا من هذه الحادثة، أو كيف جرى إنقاذُه، فقلتُ له: لابدّ وأن وجودك المستمرّ على هذه السلالم يسبّب لك مثل هذه الحوادث بشكل دائم.
قال لي بثبات: لا ليس الأمرُ كذلك، أنا مريض بالصرع ونادراً ما تأتيني نوباتُه لأنني أتناول الأدويةَ بانتظام، وإن أتتِ النوبة فهي تأتي خفيفةً، أتعامل معها بكل هدوءٍ، لكن منذ بضعة أيام جاءتني نوبةٌ قوية وأنا على السلم جعلتني أقعُ أرضاً فأُصِبت إصابةً بليغة في وجهي، كما ترى، وفقدتُ إثرها الوعي.
قلت له بخوف: وماذا بعد؟
قال: ماذا تقصد؟
قلت له بصوت مرتجف: ومن أسعفَك؟
قال: لا أعلم من، فقد رأيت نفسي في المشفى ممدّداً بعد أن أفقتُ من الإغماء ولم يكن أحد بجانبي، لكني بعد أن سألت عن المسعف قيل لي إن طالباً جامعياً كان في المكتبة قد قام بإسعافي.
وقفتُ حائراً أسألُ نفسي، أيّ ذنب اقترفت؟
وجعلتُ ألوم نفسي، وفجأةً شعرتُ بوخزةٍ في القلب فارتعشت يداي وتعرّقتُ بشدة، بعد أن اطلعت على خطيئتي وأدركتُ تهاوني وتقاعسي وتقصيري في حقّ هذا الإنسان العظيم الذي ضرب لي مثلاً في احترامِه لذاته بتجاوزه لحالته المرضيّة بكل شجاعة، وعودتهِ إلى عملِه بالرغم من إصابته البليغة، بينما اختبأتُ أنا بكل حمقٍ ورعونةٍ خلف أوهامي وخوفي من اتّهامي بقتله، بدل أن أقومَ بإسعافه أو حتى الاتصال بمن يسعفُه.
خرجت من المكتبة مكتئباً ومحتاجاً لمن أبثُّه شكوايَ وهمّي وحزني إلى أن عزمتُ أخيراً على إخبارِ أستاذي غيرَ آبهٍ بالعواقب.
وبعد تفكير مُضنٍ، قرّرت شرح الحالة بالتفصيل دون زيادة أو نقصان. همهَم أستاذي طويلاً ثم تنهّد حاصراً خدّيه بكفيه ثم قال:
الآن نحن في الكليّة، وهذا وقت عمل، ولا يجبُ أن نضيّعَه في مسائلَ شخصية..ت عال إلى منزلي لنتحدّثَ معاً في هذا الموضوع، وهكذا كان.
في المساء قال لي بعد استغراقه في التفكير: إن ما فعلته يا بني كان خطأً فادحاً قد يكلّفك مغادرةَ بلدنا دون الحصول على شهادة الدكتوراه، فأنت لم تخطىء بحقّ ذلك الإنسان فحسب بل أخطأتَ بحق الإنسانية كلِّها، لكن اعترافك إليَّ بالأمر ينبيء عن ضميرٍ مازال حياً، إنّما عليك أولاً الاعتراف للسيد أمين المكتبة بما فعلت والاعتذار منه، وهنا فإنّ له الحق أولاً وأخيراً أن يقبل اعتذارك ويسامحَك أو أن يفعلَ غير ذلك كأن يخبرَ الشرطة عنك، أما أنا فقد اكتفيتُ بأنّك أخبرتني.
فكرتُ كثيراً بما قاله أستاذي وقررت الذهاب إلى المكتبة في اليوم نفسِه بعد انتهاء دوامي في العمل، وفي طريقي إليه صرت أرتبُ في ذهني طريقةَ الاعتذار منه كي يسامحَني على فعلتي الشريرة تلك، لا لئلّا يخبرَ عني، فلم يعد يهمُّني شيء بعد كلّ القلقِ الذي عشته خلال الأيام السابقة وتكدّرت معه حياتي.
وصلت المكتبةَ فرأيت الباب موصداً ، وملصَقاً عليه ورقةٌ كتب عليها:
حداداً على وفاة أمينِ المكتبة يوقفُ العمل فيها لهذا اليوم.
.