رأي

جوع وهجرات تتسع .. من سيقرع ناقوس الخطر لوقف النزيف الدامي..؟! .. هني الحمدان

عندما تغلق كل المنافذ ويضيق أفق عيش الإنسان بـ”حال مستورة” ، وتنعدم كل الوسائل ويصبح عالة على ذاته وعلى محيطه، ولا يقدر على تأمين ما يحتاجه خلال يومه، يصير للآراء والفلسفات منحى آخر. بعد أن  يصل إلى درجة يشعر فيها باختناق تشتدّ أوزاره يوماً بعد آخر، يقتنع كل الاقتناع بأن الدنيا وكل ما فيها تحاصره، وتقف في وجه حياته وكيف سيؤمّن قوت يومه، ليشعر أنه محارب في رزقه، ومسلوب منه كل مباهج الدنيا.

للأسف هذا حال أغلب السوريين، بعد أن وصلوا إلى ما وصلوا  إليه من ضيق وفاقة وقلة حيلة، فقر لا يوازيه فقر، قوة شرائية مدمَّرة، تضخّم وغلاء أكل كل شيء، وشباب ينتظر أي فرصة عمل ولكن ..!.

مع اشتداد الأمور تشتد حالات “النزيف البشري”، وخاصة من الكوادر البشرية المؤهلة وذات الاختصاص، هجرة ليست لشريحة الشباب الحالم فقط، بل أيضاً لكفاءات طبية وعلمية وأكاديمية، كانت بالأمس في ساحات العمل والإنتاج، فالنزيف مستمر، الكلّ ينشد وضعاً أفضل، لكن لا أحد مهتم بمدى خطورة هذه الهجرات والخسارات البشرية على عديد من ميادين ومفاصل العمل..!

كثرت مشكلات الحياة، و مفرزات المعيشة الضاغطة كابوسٌ ثقيل أقلق عقول الكثيرين، وغيّر من قناعات من كانوا بالأمس القريب لا يؤمنون بالهجرة أبداً، تراهم اليوم في أوج حماسهم للخلاص من ظروف اقتصادية صعبة، ولسان حالهم يلهج بأن أيام الدنيا صارت “علينا” بالكامل ولم يعد بمقدورنا التحمّل والصبر، فالشدّة طالت، والعسر شوّه حياتنا..!.

مرافق عمل في الوزارات ومؤسساتها تخسر كل يوم كفاءة وخبرة بشرية، وهذا  ليس بالأمر الجديد، لكنه يتم في ظل تجاهل وعدم تقدير لأثر ذلك مع مستقبل الأيام، فالوضع خطر وسيُلحق الأذى إذا ما تمّ استمرار التغاضي عن نزيف العقول والكوادر العلمية إلى الخارج، فالوطن وحده هو من سيدفع الثمن من رصيده العلمي والفكري، يخسر المال ويخسر كادره البشري، وبهذا  النزوح الجماعي المؤهّل وللشباب الطموح ستأتي النتائج ليست في مصلحة البلد، بل تصب نفعاً وإنتاجاً في ساحات بلدان أخرى ..!.

فاتورة التسرب والنزوح العلمي للكفاءات الفنية والتقنية والطبية وغيرها ستكون ثقيلة، والغريب أن الحكومة على دراية بالنزيف الحاصل، وما قدّمته من إغراءات مالية وتعويضات للأطباء والأجهزة الأخرى لم يكن سوى تعويضات ترقيعية أمام إغراءات ما تقدمه دول أخرى، ولا نقول دولة كالصومال مثلاً تستقطب العقول والكفاءات السورية بأجور مرتفعة جداً..!.

ليس التسرّب والهجرة في مجال الطب ومرفقاته فقط، بل تعداه  إلى كوادر واختصاصات أخرى، دفعهم إلى ذلك الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردّي، وكان دافعاً مهماً في هجرة الأدمغة إلى وجهات أكثر منفعة وذات عائد اقتصادي يؤمّن لهم العيش المناسب، فهل من المعقول أن تعاني مشافٍ من نقص أطباء اختصاص و تخدير؟ حيث قالت بعض التقارير: إن هناك مشافٍ كبيرة لم تعد تستطيع إجراء أكثر من عملية جراحية تخصصية في اليوم لقلة أطباء التخدير مثلاً، فيما تعاني مشافٍ أخرى في حالة قلة لبعض الاختصاصات المختلفة من الأطباء…!.

وهل يُعقل أن شركات إنتاجية تعاني من قلّة الكوادر الفنية والإنتاجية؟.. والأنكى أن لا عمل جديداً ولا إجراء يصبّ في مسرب  تشجيع كفاءات كهذه في مفاصل العمل؟.

والسؤال على كل لسان: أين تدخلات الحكومة، وماذا قدمت من إجراءات تعزز وتحافظ على بقاء هذه الكفاءات ..؟.

وإذا كانت الإدارات الرسمية لم تبلور رؤية واضحة لكيفية الحفاظ على كوادرها، أين القطاع الخاص وماهو دوره في استقطاب هذه الأدمغة؟  فكان لوقت طويل يدفع بالعملات الصعبة لقاء الاستعانة بخبراء وفنيين أجانب على حساب الكفاءات الوطنية..!.

قد يقول قائل: إن الميزانيات منهكة وليس بمقدورها التحمّل أو فعل أي شيء على المدى القريب، من جرّاء التحديات والظروف الاقتصادية الصعبة التي لا تزال مسبباتها جاثمة على كل ما يعزز وينمي قنوات النمو، لكن أن يبقى كل هذا التجاهل فهذا أمر ليس في مصلحة البلد أبداً، فضياع كفاءات وعقول، كان من الأولى المحافظة عليها لتصبّ مخرجاتها وطاقاتها العلمية والإنتاجية والإبداعية في التنمية المحلية وفي شرايين وقنوات الإنتاج الوطنية، بدلاً من أن تقدم خيراتها لشعوب أخرى، خسارة لا شك ستفقدنا مورداً حيوياً في تكوين القاعدة العلمية والتكنولوجيا التي تنامت وأخذت منحى تصاعدياً خلال السنوات الأخيرة.

أين الجهات المعنية التي تحسست مرارة الواقع وما عانته تلك الكوادر البشرية والأكاديمية من ظروف معيشية صعبة..؟، هل ستبقى حالة التجاهل وعدم الاكتراث مستمرة أم ستكون هناك محفزات ومشجعات جديدة لعلها تخفف وطأة ومكابدة ظروف الحياة؟، إجراءات وقرارات تشجع ولو بالحدود الدنيا على ترك أفكار الهجرة التي عششت في عقول أغلبية البشر.

من سيقرع ناقوس الخطر لوقف النزيف الدامي..؟ ففي كل يوم نخسر طاقات وكوادر، وأماكن العمل والإنتاج تتهاوى بلا إنتاج ولا عمل .. من وقف وراجع كل الخطط الإدارية للشركات والمؤسسات وبعض الإدارات الرسمية .؟

دققوا  فيها ياسادة وستلحظون القاسم المشترك “المؤلم”، نقص العمالة والكفاءات بسبب الهجرة، ابحثوا  في المسببات وعالجوها بقدر ما تسمح لكم ميزانياتكم، وفتّشوا عن منح مزايا ومشجعات أخرى لعلها تجذب البعض.

وضع البشر اقتصادياً صار جحيماً وناراً تكوي جنباتهم، والذي يدمي فعلاً أننا في كل يوم نشاهد ونسمع عن باحث أو مخترع أو طبيب، كلّ منهم قدّم حسب اختصاصه عملاً خارقاً يشار إليه بالبنان خارجاً، وهؤلاء الكواكب من شبابنا أصحاب العقول المبدعة في الخارج، أبدعوا وسجلوا أرقاماً قياسية، ومنهم من كان مغموراً ومهمشاً في بلده وفي دائرة عمله، والسبب عقلية بعض الإدارات، لقلة التشجيع وفقدان أي دعم مادي ومعنوي، وربما لعدم تهيئة بيئة الإبداع والابتكار..!.

تغيير الأداء وأسلوب التعاطي الرسمي، مع إعطاء محفّزات مادية مجزية ومعنوية، واتخاذ إجراءات تسهل في تشجيع الكفاءات والعقول السورية في بلدها، ماهو إلا  إجراء  أولى للتفاعل بكل إيجابية مع نزيف كهذا، إذا لم يتم التخفيف من تواتره فالخسائر ستكون فادحة على كل المناحي العلمية والفكرية والاقتصادية والتكنولوجية وحتى الاجتماعية.

لعلّها دعوة في وقت لم تعد تجدي الدعوات نفعاً ..!

 

إقرأ أيضاً .. بنوك المال مريضة .. الفقر ينهش بالعباد ومستقبل أسود .! ..

إقرأ أيضاً .. “الحالة السورية” .. استشراف للواقع والمستقبل ..

 

*إعلامي – رئيس تحرير صحيفة تشرين السورية سابقاً
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحاتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى