“ثقافة الفيسبوك” .. د.علي مطيع عيسى

|| Midline-news || – الوسط …
هذه الحرية في النشر التي باتت حقاً غير مُنازع حوّلت بعض الناشرين إلى قدوات يحتذى بها دون المرور بالمراحل التقليدية من دراسة وإشراف وتمحيص وفحص وتدقيق من قبل ذوي الاختصاص قبل إرسال المادة إلى النشر.
كما أن تطبيق الفيسبوك يقوم بإعادة نشر المادة أو الصورة إذا فتحها مستخدم ما بغرض الاطلاع عليها، ووضع إشارة عليها (tag)، ما يؤدي إلى المزيد من النشر غير المقصود أو الموجه من الأساس.
هكذا تجد نفسك وأنت تتصفح “الفيسبوك” وسط خضم من أمواج غير متجانسة ولا متسقة مع سياق محدد. بعضها مقولات نسبت إلى غير قائليها، أو حتى إلى من لا يتوقع أن يتفوه بها، للدلالة على فكرة يقصدها الناشر دون مراعاة لأبسط شروط الأمانة العلمية والأدبية. وربما تصعقك صورة مركبة باستخدام تطبيقات معالجة الصور يراد منها إثبات نظرية دينية، أو عقيدة ما. وقد يعمد أحدهم إلى إغراق الصفحة بالعشرات من مواده التي يعتبرها مهمة، وان لم تكن ذات قيمة في واقع الحال، ما يحرمك من مواد سابقة قد تكون أفضل منها.
لقد لاحظت من خلال استخدامي “الفيسبوك” فترة غير قليلة؛ أن الكثير من الكتاب الملتزمين إما رفضوه بداية، أو هجروه آخر الأمر. وأجد هذا الأمر مفهوماً؛ فأنت لا تريد أن تعقد ندوة ثقافية في سوق (الهرج)، ولا أن تنشر مقالاً في لوحة إعلانات. علاوة على ذلك فإن حيز التعليقات غير المنضبط قد يجلب لك الكثير من الصداع رغم الفائدة الجمة المتحصلة من الحوار والتبادل الفكري بمثل هذه الأدوات.
ولم يكن “الفيسبوك” هو التطبيق الأول الذي يعاني مثل هذه الآفات. فقد سبقته إلى ذلك المجموعات البريدية التي تستخدم جمهوراً من عناونين إلكترونية مشتراة أو مسلوبة، لإقحام مواد بعينها على متلقين ليس بيدهم حيلة غير محو المادة أو وضعها في سلة المتطفلين. وربما كان السلف الأكثر قرباً والذي لا يزال معمولاً به هو ما يعرف بالمدونات (بلوغز)، والتي هي في الواقع صفحات شخصية لأفراد قد يكونون من الكتاب المُجيدين، أو مجرد مهرجين ساعين إلى اجتذاب الجمهور بأية طريقة تتاح لهم. غير أن أدوات “الفيسبوك” وانتشار استخدامه على نطاق واسع بين الشباب، جعلته الأخطر على المستوى الثقافي بشكل عام، والذي أزعم أنه في انحدار متزايد منذ بداية عصر التبادل المعلوماتي الفوري، الذي يحلو لنا أن نطلق عليه اسم “الإنترنت”. وبفضل “الفيسبوك” فإن هذا التدني في مجالات الثقافة والعلوم والآداب قد أصبح واقعاً يتأكد يوما بعد يوم.
على الرغم من كل ما تقدم، أنا لا أدعو إلى مقاطعة “الفيسبوك” أو محاربته، أو منعه بأي شكل من الأشكال. فإيماني بالحرية الفكرية يمنعني من طلب وضع رقابة على أية وسيلة إعلامية مهما تكن. لكنني أدعو إلى نوع من التثقيف ونشر الوعي حول مخاطره على المستوى الثقافي العام، وطرائق تجنب الوقوع في مطبات ما يبدو لغير العين الفاحصة حقائق لا يدانيها شك. يمكن أن تبدأ حملة التوعية هذه في المدرسة، والبيت، قبل أن تتحول إلى حملة يرفع لواءها الشباب أنفسهم. هؤلاء الشباب ربما رغبوا في أن يحوزوا قدراً كبيراً من الثقافة الرصينة، لكنهم ربما يجهلون كيف يحصلون عليها. وعلى المربين أن ينهضوا بهذا الأمر، كما نهضوا به في كل عصر، وواجهوا كل تحدٍ بصبر وجلد، حتى آلت إبداعات الأولين إلينا. وعلينا أن نحافظ على تلك الدرر، وعلى الذوق السليم الذي بدونه لن يصبح لإرثنا الثقافي العظيم أي معنى.