تفكيك الاحتلال كظاهرة جيوسياسية .. يزيد جرجوس

إن النظر إلى الظواهر الاجتماعية والسياسية يتخذ أهمية كبرى عندما نستطيع أن نعرفها ونسبر أعماقها وتشكيل تصورات لأسبابها ودوافعها، ليس بغرض الإدانة أو التشفي أو حتى التبجيل، ولكن للغاية النبيلة في الفهم وصياغة الحلول حيث يلزم لمواجهة الإرهاصات والتعديات، والأطر الناظمة للاستدامة حيث تكون النهضة والإمكانات، لأن البحث في علوم التاريخ والاجتماع والسياسة يجب أن يرتقي للمستوى الإنساني ويتسع على مستوى البشرية، فهو لا يهدف لخدمة أمة أو فئة أو مرحلة، ولكن يسعى للارتقاء بالحاضنة الموضوعية للحضارة.. الإنسان.
إن ظاهرة الاحتلال العسكري عبر التاريخ لم تشذ عن تلك القواعد “الاجتماعسياسية” في عمقها، وإن كان ظاهرها غالباً مؤلماً ويحمل الكثير من المآسي والخسارات، ولكنها بنظرة متأملة في نفسية الجماعة جاءت دائما كتعبير عن الرغبة بالتمدد الجغرافي السياسي بصورة أصيلة وبنيوية عند كل دولة أو حضارة أو أمة، عندما تصل لمراحل معينة من القوة لا تمكنها من التفكير بالتمدد فحسب ولكنها تدفعها لذلك.. فهذه القوة المادية والمعنوية لا بد أن تعبر عن نفسها، وهذا التعبير يتجلى وفق آليتين:
– الأولى “لا إرادية” وهذه مثل ظواهر الحلول الكيميائية أي أن انتقالاً إجبارياً سيحدث (من إلى) وبصورة عفوية لا إرادية ينتجها فائض “السمعة الحضارية” أو “سطوة القوة” لدى طرف اجتماعي دولي، بمقابل ضعف وحاجة طرف آخر لتشرب “القيم” التي يظن أنه يحتاجها أو يتمثل بها، وهذا التوصيف هنا يأتي بمعزل عن صوابية أو خطأ ذلك الخيار.
– الثانية “إرادية” كخيار للطرف الدولي الأقوى والذي يمر بحالة من التمدد، عبر قرار جيوبولتيكي بالتمدد عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً (ثقافياً)، ومن المهم إدراك تلازم هذه المسارات مع بعضها مع تفاوت النسب والأدوار من حالة إلى أخرى، فقد يحدث الاحتلال العسكري ويحمل معه ظواهر التمدد الاقتصادي ثم الاجتماعي، أو قد يحدث التمدد الاقتصادي أولا متسلحا بالقوة العسكرية أو متأثرا بها، ومن ثم ينتج عنه تتبيع ثقافي واجتماعي.
تبقى صيغة الاحتلال العسكري المباشر هي أبسط وأوضح أشكال الاحتلال والتوسع السياسي لأمة أو حضارة أو دولة، وهو بنظرة إلى دوافعه الجيوسياسية والاجتماعية، يمكن أن يقسم إلى ثلاثة أنواع سادت بشكل عام على مدى التاريخ الموثق والمعروف، وهي:
إقرأ أيضاً .. روسيا وضم الشرق الأوكراني ..
الاحتلال بغرض التتبيع والنهب، وهو غير دائم ببنيته الممارساتية أو بآلياته المتبعة، برغم أن شهيته لسرقة الشعوب التي يحتلها دائمة، وهو غالبا ما يكرس آليات لبقائه الدائم كناهب للشعوب بعد مغادرته الميدانية المباشرة. خير مثال تاريخي عن هذا النوع كان ما سمي “الاستعمار التقليدي” مثل احتلال فرنسا وبريطانيا لسوريا والعراق ومصر والهند..الخ
هذا النوع من الاحتلال بعقليته وبممارساته يصعب أن يكون له جوانب إيجابية، ولكنه لا يخلو منها على الإطلاق، فهو بالضرورة سينقل بعضاً من المفاهيم والأطر الإيجابية الحضارية التي يحملها، فليس هناك حضارة في التاريخ تخلو من الإيجابيات حتى نكون منصفين، ولكن المهم هنا للالتفات إليه أن هذا الانتقال الحضاري يكون وفق الآليات العفوية غير المقصودة، في حين يسعى الاحتلال نفسه وفق آليات مدروسة ومقصودة لتكريس المفاهيم والقيم والممارسات السلبية التي تضمن له ديمومة الأثر بعد رحيله المباشر.
إقرأ أيضاً .. لطفاً لا أمراً: افحصوا زيلينسكي ..
الاحتلال بغرض الضم والتوحيد، هذا الاحتلال الذي كثيرا ما حاز التوصيفات الإيجابية فسمي “فتحاً” أو “توحيداً” أو “مشروعاً حضارياً”..الخ. وهو بالفعل يبدو كذلك من زوايا معينة يمكن النظر إليه منها، فمثلاً يمكن اعتبار احتلال مملكة إنكلترا لممالك ويلز وسكوتلاندا وإيرلاندا بمثابة المشروع التوحيدي لبناء امبراطورية واحدة قوية لمصلحة الجميع، وهذا قد حصل بالفعل، حيث لم يكن هدف الاحتلال سرقة تلك الإمارات ولكن توحيدها، وهذا نفسه ما سعت له الإمبراطورية العربية الإسلامية فهي هدفت بشكل جدي لدخول الأراضي التي تحيط بها وضمها ضمن إطار الدولة الواحدة بشكل مستمر، كما أنها لم تبخل بنقل العلوم والإمكانات التي لديها هنا وهناك ومثال الاندلس وحده كفيل بتوضيح هذه المسألة، تماما كما كان دخولها إلى فارس وآسيا الوسطى وغيرها، حيث نجد أن العلماء الذين وصلوا إلى بغداد ودمشق والقاهرة من تلك البقاع للدراسة والبحث والعلمي، لا بل وحتى لتبوؤ المناصب السياسية والعلمية الرفيعة فيها، فمثلا كان أبو بكر الرازي الفارسي مديرا للمشفى الكبير في عاصمة الدولة العباسية بغداد.
من الجدير بلفت النظر هنا وبنظرة واقعية أن معظم دول العالم تشكلت وفق هذا النوع من الاحتلال والتوحيد، وهذا ينطبق أيضا على الدول والامبراطوريات البائدة، إذ ليس ثمة امبراطورية واحدة في التاريخ لم تذهب مذهب استخدام قوتها العسكرية والحضارية للتوسع وبناء كيان “آمن” على الأقل وفق نظرتها لأمنها القومي. طبعا الكثير من الحالات عادت للتفكك مجددا بعوامل ذاتية أو بدوافع التدخلات الخارجية في إطار المنافسة الحضارية والسياسية مع الدول الأقوى، وبالتالي برز من خلال ذلك نموذج آخر لتشكل الدول وهو التفكك.
إقرأ أيضاً .. ذهنية أوروبا تستعمر واقعيتَها ..
عبر التاريخ لم يقتصر نهج الامبراطوريات والأمم على نوع واحد من النوعين السابقين، فالتجارب تخبرنا بأن دولة واحدة كانت قادرة على ممارسة نمطي الاحتلال، مرة بغرض الضم والتوحيد كما فعلت إنكلترا تجاه الإمارات المحيطة بها والمذكورة أعلاه، ومرات بغرض سلب الخيرات وتتبيع الشعوب لنهبها وليس للاتحاد معها كما فعلت في مصر والهند والخليج.. الخ.
هنالك نوع ثالث من الاحتلال نادرا ما يتم الحديث عنه برغم وجود أمثلة صارخة عليه في تاريخنا المعاصر، وهو الاستيطاني التطهيري، حيث يسعى المحتل لإبادة السكان وإحلال سكان جدد مكانهم، إما عبر رعاياه هو بشكل مباشر كما حدث في احتلال أميركا الشمالية من قبل الانغلوساكسون، أو عبر استجلاب رعايا آخرين مثل احتلال فلسطين من قبل بريطانيا، والذي تم فيه محاولة إبادة وتهجير السكان تزامنا مع إحلال مجموعات بشرية متنوعة جلبت من مختلف دول العالم تحت عنوان “ديني” للاستخدام في عملية الإحلال تلك. هنا أيضا يمكنني الإضاءة على حقيقة موضوعية تخبرنا بها التجارب، وهي غاية في الأهمية من جانب اجتماع سياسي، حيث تقول الخبرة البشرية إن وقود عملية الإحلال تلك يكون دائما وبشكل شبه عام من العصابات والمتهورين والمغامرين غير الناضجين معرفيا والمؤدلجين لدرجة التطرف.. وهؤلاء استخدموا بشكل مستمر في المؤامرات الكبرى ذات الطابع والبعد الجماهيري.
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter