إضاءاتالعناوين الرئيسية

“تداعٍ” رجل يبحث عن حذاء.. عامر الطيب

|| Midline-news || – الوسط
.

في البدء يجذبنا عنوان الرواية وهو عتبتها الأولى، العنوان المختزل عن رجل يستعيد تفاصيل حياته بدقة من لحظة استيقاظه إلى تأمله قدمه المتضخمة ثم إلى وقوفه في طابور محطة الترانسميلينو التي يضيع فيها حذاءه.
التداعي سيكولوجياً يشير إلى الاتصال العقلي بين المفاهيم والأحداث والحالات العقلية التي تنشأ عن تجارب معينة. إذ تعمل الذاكرة كسلسلة من الترابطات: تتشابك المفاهيم والكلمات والآراء، فيحاول المرء أن يؤسس هوية أو واقعاً من خلال استعادته لزمن ما أو لحالة ما.
والتداعي هنا أيضاً يعيد إلى أذهاننا عمل الروائي النيجيري تشينو أتشيبي الشهير الذي حمل عنوان “الأشياء تتداعى” الرواية التي صورت المشاكل التي يمر فيها “اوكونكو” أحد شيوخ قبائل “الايبوا”، والتي عوقب عليها بالنفي لسبع سنوات. ثم عندما يعود “أوكونكو” إلى قريته، يكتشف أن المبشرين أقاموا الكنائس وعسكروا في قريته. ويقع الصراع بين المنتمين لدين المستعمر وبين أبناء القبائل الذين حافظوا على تراث أجدادهم. يستيقظ خورخة إذن وقد تضمخت قدمه وتبدل مقاس حذائه من ٣٨ إلى ٤٠ ذلك التغيير الذي يبدو طفيفاً وطريفاً لأول وهلة. سرعان ما يجعلنا نشعر بعواقبه إذ يتبدل لون السماء إلى رمادي كئيب ومرير للغاية ويدخل خورخة في رحلة طويلة ومليئة بالملابسات والمواقف المألوفة و بالغرائب أيضاً.
.

.
الرواية هنا إذن ليست أحداثاً صاخبة بقدر ما هي تصورات وعتبات ننتقل معها بين لحظة وأخرى بلغة مكثفة وموجزة وشعرية و إيقاع سريع فاتن. لعله الإيقاع الذي يميز الرواية الحديثة اليوم لتمثله سرعة الزمن الحديث نفسه.
وإذا كان للأدب قيمة نادرة وخاصة به فإنها قدرته على استعادة حياتنا وعلى مواجهة السأم والتلاشي وعلى تكوينه لعالم موازٍ للعالم الذي تتهرأ صورته قبالة أعيننا. إن خورخة كما رأى مبدعه الروائي الكولومبي البارز أنطونيو غارثيا آنخيل هو (صورة لمدينة بوغوتا ) وهي واحدة من أكثر المدن ارتفاعاً في العالم والتي تلقب بأثينا أمريكا الجنوبية لوفرة المكتبات فيها.
إذن تتداخل أحداث وأوهام وأحلام خورخة لتشكل لنا طيفاً عن الصراع الذي يجتذبه كنموذج لللطبقة المتوسطة في بوغوتا وهو صراع الملامح الحقيقية للعولمة وظلالها على رجل تتضخم قدمه، مفارقة تقودنا أخيراً إلى مسخ كافكا بطريقة أو بأخرى، غريغوري سامسا الذي يجد نفسه قد تلاشى فجأة وتقلص إلى صرصار صغير، وخورخة الذي يكتشف تضخم حجم قدمه. ولكن إن انتهى الأمر ببطل كافكا إلى أن يسحق كنهاية تشير إلى عبثه ويأسه من مواجهة أزماته النفسية فإن بطل أنطونيو غارثيا أنخيل تراوده رغبة بقذف نفسه في الفضاء فقط ليدعنا نشعر بأنه يصارع مأساته بأمل عظيم، كما لو أنه يلوح لنا قائلاً بعبارة شعرية لم يكن قد قالها حرفياً “لا تنجح مواجهة الأمواج إلا للسباحة ضد التيار”.
تجدر الإشارة إلى أن الرواية صدرت عن دار المدى للنشر و التوزيع سنة ٢٠٢٠ و قد قامت بترجمتها عن اللغة الإسبانية المترجمةُ العراقية إشراق عبد العادل.
.

*شاعر من العراق

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى