بين واقعنا وترسبات الماضي.. هل منابرنا تدافع عن قضايانا؟ بقلم علي .أ. دهيني
|| Midline-news || – الوسط …
.
قد يكون من البديهي أن كل الكتابات والأخبار في مختلف نتاجات القلم، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، كلها تتناول الواقع المعاش لأنه المادة التي يعيشها العقل الحاضر ويعايشها في سلوكه وعلاقاته. إلا أن الحقيقة كل ما نعيشه حاضراً على كل المستويات، يعود في أساسه وأصوله، إلى ما أنتجه العقل البشري على مر السنين. لأن كل ما يكتب اليوم، نادراً ما يكون عامّاً، لأنه يخضع إلى ثقافة فئة دون الأخرى، فيرضي هذه الفئة ولا يعجب تلك الفئة.
فكلما حاولنا أن نقرأ الحاضر، قفزت إلى أفكارنا ترسبات الماضي المحمول في مكتسباتنا الثقافية. ففي كل زمن من حقب التاريخ الإنساني، خرج مجدد في الثقافة الإنسانية ليبني نهجاً فكرياً جديداً يتمحور حول كيفية تطوير المجتمع الإنساني وفق رؤيته التجديدية، فشكل جماعة مؤيدة له لتكون المنبر الذي يوجه من خلاله رعيته، وهذا سوف يساعده على وجود مسارات جديدة تتسرب إلى العقل البسيط لتشكل عقلا جمعياً يؤمن حشداً بشرياً يجعل من رؤيته قانون حياة يستوجب الدفاع عنه بكل الإمكانات، وصولاً إلى تقديم الذات في سبيل تحقيق أهداف هذه الرؤية.
وعليه، الماضي لا يختلف عن الحاضر، كأن هذا العقل يعيد دورته ليبدأ من ذات النقطة التي انطلق منها : قيمة وجوده.
إن المساحات الجغرافية لم تؤثر في هذا العقل ولم تجعل له منافذ لقاء مع الآخر تمثل، في بعدها الإنساني، قيم أخلاقية تبنى عليها علاقاته البينية، فصار عنوان هذا البعد الإنساني تصارع قوتي الخير والشر اللتان هما نتاج العقل ذاته. واستعارتهما: المادة والروح. فأسندت المادة إلى متطلبات الوجود، وأسندت الروح إلى الأخلاق.
هذا الصراع دخل في كل شيء تمثله حياة هذا الإنسان، بدءاً من تأمين مقومات وجوده، وصولاً إلى المساحات الجغرافية التي استحوذ عليها جماعة من البشر جعلتها وطناً لها تبني مقومات حياتها فيه وتدافع عنه بكل قوتها كي لا تفقد عناصر وجودها. فكانت المادة هي الوسيلة الأنجع لأنها تؤمن متطلبات الوجود، وبقيت الأخلاق مادة إغرائية للعقل تستدرجه إلى ساحة الصراع وتمنحه البراءة من دموية الصراع المادي، رغم أنها في جوهرها توصل إلى ذات الغاية المادية.!
في هذه المسيرة تطورت عناصر الدفاع بأدواتها، من الحجر وصولاً إلى النار والبارود وما أنتج من هذا النوع من وسائل قتال صعوداً حتى التدميري. وحين ضاقت مساحاتها الجغرافية انطلق إلى جغرافية ما حولها لتوسيع رقعتها والاستيلاء على ما تستبطنه هذه المساحات من طاقات وإمكانات طبيعية.
ولتشريع ذلك، ساندت هذا الدفاع ما يسمى منطلقات فكرية تدجن المجتمعات لتكون حاضرة للدفاع عن حياض وجودها.
ولم تسلم من هذا الاستغلال، حتى الرسالات السماوية التي قامت على الأخلاق أولاً وأخيراً، لأنها تعيد الأمور إلى أن الإنسان قيمة وجودية يجب الحفاظ عليها من خلال عقود اجتماعية تنظم العلاقات بين البشر، أدرجت في بنود ترتكز على نيل كل صاحب حق حقه في ما سمي عدالة لها أحكام وقوانين ترتكز عليها. فأنشئت في داخلها فئات وجماعات تتناحر فيما بينها على هراء أفرزه عقلها العاطل عن العمل الحقيقي.
أعود إلى صدر الموضوع لأقول إن مساحتنا الجغرافية التي نعيش عليها ونتحدث بلسانها العربي، مع تعدد ثقافاتها الدينية أو الفلسفية، تعرضت عبر التاريخ إلى استهلاك طاقاتها واستغلال مساحاتها وما فيها من ثروات، وما زال إنسانها تتنازعه ميولات فئوية تساعد في هدم أي بناء فكري ـ على المستوى الأيديولوجي ـ أو البناء ـ على المستوى الإنتاجي والصناعي ـ يمكن أن يجعلنا أمة قادرة على الإبداع بدل أن نكون أمة قابعة في الاتّباع. وقد وجد الطامعون بنا منافذ عدة يلجون عبرها حتى إلى غرف نومنا، من خلال تنميط حياتنا بما يرغبون تقديمه لنا من قشور.
حتى منابرنا الثقافية، وكثير من منابرنا الإعلامية، ذهبت بكل اتجاه، مقدمة نفسها على أنها وحدها وثيقة الخلاص الإنساني. والمدافعة عن حقوق وقضايا الأمة. يكفي أن نبحث عن مموليها لنعرف إلى من سنذهب معها في ثقافتنا. انظروا إلى تقديماتها الفنية من برامج توك شو وصولاً إلى المسلسلات التي لم تعد ترى في عدوها ومحتل إرضها إلاّ جاراً لا يمنع التطبيع معه.
سخافة أختم بها حول هذا التنميط: انظروا إلى ثيابنا الحديثة أليست (on fashion).. وكفى.
.