بين الأغنية والحَدَث .. مراد داغوم

Midline-News | الوسط…
لا يولد الفنان ثورياً من بطن أمه، إذ لا بد من أحداث تقود عواطفه خلال مروره بتجربة خيالية نابعة من تأثره المباشر بالحدث المعني، ولا بد أن يتضح هذا التأثر جلياً في العمل الفني الناتج. وفي أغلب الأحوال يحمل العمل صفة “النضال” التي تعود على صاحبها بردود أفعال محسوسة على شخصه وسلوكه باعتباره مسؤولاً عما قدمه.
وقد كانت للفنان الشعبي “الشيخ إمام” تجارب يمكن اعتبارها أمثلة طيبة عما أتحدث عنه. لم يُسجن الشيخ إمام بسبب مواقف “أيديولوجية” ولا بسبب وقوفه أمام السلطة في بلده من خلال أغان تتضمن مواقف نضالية، بل سجنه عبد الناصر سنة 1969 بسبب جملة وردت في إحدى أغانيه عن هزيمة 1967 وعن “سيناء” تحديداً تقول: (يا محلا رجعة ضباطنا من خط النار) وفيها إهانة واضحة للجيش المصري، ولم يُطلِق سراحه بالرغم من توسط “ياسر عرفات” له وللشاعر. لم تكن الأيديولوجيا وراء أعمال الشيخ إمام، فهو الأزهري الذي لاقت أغنياته استحسان الشيوعيين ولم يكن شيوعياً، ولم تكن الثروة هدفه من نشاطه الفني، فلم يقم حفلات بتذاكر باهظة بل كانت أشرطة لأغنياته تتسلل مجاناً بين المعجبين بأعماله. ومع ذلك، كانت أغنياته دائماً (ردود فعل) على أحداث عاشها وأثرت عليه مباشرة.
الفارق بين أعمال هذا الفنان وبين أغنيات فنان الشعب، “سيد درويش”، أن أعمال السيد كانت هي بحد ذاتها حدثاً لا يقل شأناً عن الحدث الذي أوحى بها. فبعد المظاهرات الشعبية التي كانت تهتف بحياة المناضل “سعد زغلول” أصدر الإنكليز في مصر قراراً بسجن وتغريم وجلد كل من ينطق اسم “سعد زغلول”، فكانت أغنية “يا بلح زغلول” والتي تضمنت مقطعاً يقول: (يا زرع بلدي، عليك يا وعدي، ويا بخت “سعدي”) بديلاً رائعاً استجابت له جماهير المصريين ورددت الأغنية في كل المناسبات. ولا تختلف عنها طقطوقة (أهو ده اللي صار) التي كانت هي أيضاً حدثاً قضَّ مضاجع الإنكليز ولا سيما البيت القائل: (تلوم عليا إزاي يا سيدنا؟ – وخير بلادنا مهوش في ايدنا!) و(شعبك أصيل والخصم عايب)، وتنزع كثير من الروايات إلى أن “سيد درويش” توفي مسموماً بيد الانكليز. ألهمت شهرة أغنيات “الشيخ إمام” بين أوساط طلاب الجامعات بعض الفنانين العرب فكرة استثمار هذا النوع من الغناء، فوجد “مارسيل خليفة” في الأيديولوجيا اليسارية منطلقاً ترويجياً لأعمال أنتجها تفتقد إلى العناصر الرئيسية التي بنيت عليها أغنيات “درويش” و”إمام”، كالانفعال المباشر الناتج عن تجارب نضالية شخصية أو جماعية، أو التعرض إلى تجربة ردود فعل على شخصه نتيجة أعماله، ما خلا أغنية واحدة هي (أنا يوسف يا أبي) وهي أغنية لا علاقة لها بخط الأغنيات “الوطنية” الذي أظهر “مارسيل” حرصه عليه.
مر الحدث كزوبعة في فنجان، لدرجة أن الدول التي استنكرت الأغنية صارت تستقبل الفنان بحفلات كبرى تباع بطاقاتها بأرقام مرتفعة من العملات الصعبة، يتم تقديمها لجمهور من المفترض أن أغنيات من هذا النوع ليست موجهة له أساساً، ما يدل على أن الحضور هو من قبيل الترف الثقافي غير المهتم بالمضمون وإنما باسم صاحب العمل وبـ”برستيجه” وشهرته، وبما يبدو من التزامه بوضع الكوفية وهذا يكفي لاعتباره مناضلاً.
.
*(مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا)
https://www.youtube.com/watch?v=GdUv8d_rI0k
أهو ده اللي صار بصوت فيروز وتوزيع زياد
https://www.youtube.com/watch?v=vTelYjMJgo0
هوامش: (1) – روبن جورج كولينغوود R. G. Collingwood – فيلسوف بريطاني 1889- 1943- عن كتابه الشهير: (مبادئ الفن).