الميزان في دمشق .. غسان أديب المعلم

لست في صدد الهجوم على المساع الدبلوماسيّة على أكثر من صعيدٍ وجهة، فأنا وغيري ممّن يبدون الرأي ضمن أيّ مساحة أصغر من ذلك بكثير حجماً ووزناً رغم أحقيّته ومشروعيّته لأي مواطن، لأنّ الوزن والكتلة محجّمٌ بالفعل، وبالتأكيد ليس لعاقلٍ ومحبٍّ لوطنه أن لا يرغب برؤية هذا البلد في أوج علاقاته مع جميع دول العالم متفاعلاً ومُشاركاً ومُساهماً في حركة البناء الإنسانيّة كأي دولة طبيعيّة، ولأننا كنّا ومازلنا نعيش في خضمّ ظروفٍ استثنائيّة كأقلّ مايُمكن من الوصف لدرجة أنّ كتلة الآراء ونسبتها ولو كانت وازنة وغالبة، فهي ستُضرب عرض الحائط كما هي العادة دائماً، أو بالأحرى كما أرادت السلطات للرأي والمزاج الشعبيّ بأن يكون في كتلة واحدة مطّاطيّة تتلاعب بها كمعجون الألعاب عند تصنيعها للشكل الذي ترغب به!.
فأمام الحدث – وأقصد الحراك السوريّ العربيّ الدبلوماسيّ الأخير- ثمّة آراء غالبة لكنّها غير وازنة برغم كمّ النسبة كأغلبيّة، ورغم عدم اتخاذها لموقفٍ جامعٍ واحد، لكنها بالتأكيد تجتمع تحت باب الحذر والحرص وحتّى التحفّظ، مع تماهي اللامبالاة التي تمّ تصنيعها وفرضها كسلوك، بأنّ لا أحد يستطيع إدراك أو فهم متطلّبات السياسة بالعموم، بل على الجميع الإيمان المُطلق بأنّهم أغبياء وعالة على البلاد، بينما السلطات تحمل عبء هذا الغباء وتسير بوجه التيّار والعالم أجمع لترتقي بهذا الشعب نحو حياةٍ أفضل بفضل حكمتها وقراراتها، مع حصر المنابر “الحكوميّة” وما يرزح تحت دعمها لشرذمةٍ من الذين تأمرهم السلطات بأنّ يروّجوا بأنّ لون اللبن “أورانجي”، لينبري هؤلاء إلى تفكيك ألوان قوس قزح بالسماء وشرذمتها ودحرها بإستثناء اللون البرتقالي لينعكس لونه على حياتنا من اللبن حتى الفضلات!!.
ففي استعراض عضلاتهم الأخير، رسموا الصورة المعتادة بزحف وركوع العرب ندماً وذلّاً واستجداءً لنا لنصفح عنهم ونقبل بعودتهم ونترفّع عن خطاياهم، وأنّنا -أيّ كدولة كما يفترضون- سنشكّل حلفاً أو حتى قطباً عالميّاً نفرض على الكون مايحلو لنا، بعد أنّ نملّ المنّ والسلوى الذي سيُغدق علينا.
أمّا حقيقة الأمر، فالجميع يعلم علم اليقين بوزن الجامعة العربيّة بأكملها وفي ذروة تضامن أعضائها بأنّه صفرٌ مكعّب مثيرٌ للسخرية بأغلب الأحوال، فالتاريخ قريب، والقرارات والعنتريّات موجودة، وأطنان الأوراق التي تحمل بياناتها الشجب والاستنكار والتنديد لا تخفى على أحد.
هذا بالنسبة للوزن العالميّ ككتلة دول تجمعها اللغة والدين والتاريخ والتلاحم الجغرافيّ فيما بينها، ولم تستطع طوال تاريخها المتواصل من الملاحم والتلاحم والتعاضد على فرض أمر واحد على كيانٍ صغير شبع عبثاً وتخريباً في قلبها، وانتهك حرماتها، وأوغل سيفه بصدرها، واعتدى على كلّ أبناءها من المحيط للخليج.
أمّا وعلى افتراض النظر لنصف الكأس الممتلئ فلا أحد يتمنّى العداء لأيٍّ من شعوب هذه الدول، والجميع يرغب فعلاً بأن تكون هناك علاقات طبيعيّة تكسر الحصار وتساعد في إعادة الإعمار أو حتى تسهيل العلاقات التجاريّة بما يمكّن من تخفيف الأوضاع الاقتصاديّة المأسويّة الاستثنائيّة التي يعيشها السوريّون بالمُجمل.
ولكن الشعور الغالب بالتحفّظ هو السمة العامة لكثرة التجارب المريرة التي غالباً ماكانت تنصبّ مُرّاً على الشعب السوري ولاشيء سواه.
على العموم، وكما ظهرت نتائج المحادثات للعلن، فإنّ أغلب النقاط كانت تكراراً لمتطلّبات وقرارات محافل دوليّة لم تتوقف يوماً عن استعراضها وترديدها كالببغاء، وحدة أراضي سوريا، وعودة المهجّرين، ومصالحة سياسيّة وانسحاب جميع القوات الدخيلة -أصدقاء مع أعداء- مع مكافحة المخدرات والعيش بعدها بسباتٍ ونبات.
وبالتأكيد، وضمن فصول المسرحيّة قليل من “الآكشن” لجذب الحماس وجلب الشغف لمتابعة التطوّرات، كأن تعترض بعض الدول على عودة سوريا للحظيرة دون تنفيذ الشروط، أو تتأسّف بعض الدول للتقاربات الأخيرة، ليبقَ الأمر مرهوناً بالغيبيّات لتنفيذ الحلول، ولتستمرّ الكارثة الإنسانيّة العالميّة باستنزاف سوريا والشعب السوري حتى آخر متر وقطرة دم.
وبين هذه الفصول تحضر عديد الأسئلة:
هل نحن بحاجة ماسّة للعرب مجتمعين؟..
هل ستكون هذه الخطوة الدبلوماسيّة طوق نجاة؟..
هل سيكون لنا رأي -كدولة مفترضة- أمّ علينا الاستماع وتنفيذ الشروط والأوامر؟..
وهل هذا الأمر والحراك هو الوحيد بانعدام الخيارات؟..
وهل البقاء على حالة العداء -كما كان إبان الأزمة- هو الحلّ البديل على سبيل المثال؟..
والسؤال الأهمّ: ماهو رأيّ الشعب السوريّ؟..
والإجابة على هذه التساؤلات بالعموم، أضعها تحت باب ردّ المنطق والتاريخ، وهو الجواب الذي نلتمسه فيما بيننا كمواطنين يعبّرون عن رأيهم ضمن المنتديات المُتاحة وصولاً للأحاديث الجانبيّة ونقاشات مواقع التواصل الاجتماعي.
فنعود ونكرّر بأنّ السياسة بين الدول مصالح، وهذا من البديهيّات وألف باء السياسة، والجميع يريد فعلاً الحياة السياسيّة الطبيعيّة لبلاده من قلّة الأعداء ووفرة الأصدقاء، والجميع يرغب بأن تكون بلاده في أمان وبرغدٍ اقتصاديّ ومسيرة اجتماعيّة مميّزة على الجانب الإنساني، وبالتأكيد يرغب الجميع بأنّ يكون الوطن موحّداً بأبناءه فارضاً سيطرته على كلّ أمتار جغرافيّته مُستملكاً لثرواته منيعاً على أعدائه، هذه الأماني كلّها منطقية وبديهيّة، وتاريخيّاً لها مواضع وأمثلة على مساره بأكمله..
لكن وبالعودة للسؤال الأهمّ عن رأي الشعب ودوره في اتخاذ القرار والمشاركة والإسهام، وهل أنّ الطريق محصور بهذه الحراكات الدبلوماسيّة وأولويتها من عدمها..
إنّ المنطق والتاريخ يفرض نظرياته وتداعياته بالأولويّة، فوحدة أراضينا مكفولة بنا، والمصالحة فيما بيننا مشروطة بنا، ومشروع الدولة القويّة المستقلّة الفارضة سيطرتها رهينٌ بنا، ومسيرة البناء والإعمار تبدأ خطواتها من إرادتنا .. أي كشعب يقرّر مصيره أو تتمّ استشارته بأقلّ الأحوال.
فقوّة وشرعيّة ووزن وحجم أيّ دولة في العالم مُستمدّة من قوّة المواطنة والقانون والمؤسسات والحريّات، وما عدا ذلك مجرّد ترّهات لن تُسمن أو تغني عن جوع.
الحراك والمصالحة والسبيل يجب أن يكون داخليّاً قبل أيّ شيء، فالميزان في الوطن، وحيث تكون كفّة الشعب يكون المكسب وبيضة القبّان بالرجحان.
داؤنا ودواؤنا بين ظهرانينا، وعلى السلطات التحرّك بهذا الاتجاه الداخليّ لتستمدّ القوّة في حراكها الخارجيّ، غير ذلك ستبقى المراوحة وقد تغلب عليها مرحلة الخراب الأخير..
وفي النهاية، أمنية ولو كانت غريبة ومستحيلة بآن، وعلى فرض أننا في دولة مؤسسات وكان هناك استبيان للرأي، هل تستطيع السلطة توجيه سؤالٍ للشعب، بأنّه ولو جمعت دول العالم ما ادخرته في بنوكها وقدّمته للسلطات السوريّة ليتمّ توزيعها هديةً للشعب السوريّ تعويضاً لما حدث معه من مآسي وخراب، فكم نسبة السوريّين الذين لديهم ثقة بأن يصله دولاراً واحداً من هذه السلطات؟.
أعلم الجواب، ويعلمه غالبيّة السوريّين، وربما لا تعلم السلطات بحجم هذه الكارثة بأن حبل الثقة معدوم، وأنّ عليها استدراك الأمر والحراك تجاه الشعب قبل أيّ حراكٍ خارجيّ، وإلّا فلا وطن ولا من يحزنون .. وسلامتك ياوطن.
إقرأ أيضاً .. قبل انهيار السقف ..
إقرأ أيضاً .. نهضة من تحت الرماد ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب