الموسيقا الصرفة .. مراد داغوم ..

بعدما تمتعت في القرن السابق بمكانة رفيعة، تتجه الموسيقا الصرفة للانقراض ما خلا حالات استثنائية لموسيقا الدراما بأشكالها. للوصول إلى دراسة ما يتعلق منها بالموسيقا العربية، يجب أولاً أو نلقي نظرة على ما هو عالمي منها لنعرف مكانة موسيقانا وعناصر تفردها وتميزها عن غيرها، ليس على سبيل المفاضلة إطلاقاً، بل لغاية المقارنة وهدف معرفة تفاصيل تفرد الموسيقا العربية، حال وجودها.
منذ فجر الموسيقا الكلاسيكية وحتى بداية القررن العشرين،عرفنا أنماط التأليف الموسيقي الصرف والتي تبدأ من السيمفونية، ذلك التأليف الضخم، ذو الإسراف الموسيقي اللحني والهارموني. ثم الكونشيرتو المختلف بتخصصه لآلة محددة، ويتشاركان في تضمنهما حركات أربعة. ومنها أيضاَ “المتتاليات الأوركسترالية”، وتشترك جميعاً بطول زمني يتجاوز في حالات متعددة 45 دقيقة.
هناك أنماط أخرى، منها الدراسية المخصصة لآلة محددة، وهناك أيضاَ مقدمات الأوبرات وفصولها المتعددة وتمتاز بتكثيف الاهتمام نحو ثيمة واحدة. وهناك نوع آخر مختلف عن تلك الأنماط وهو المؤلفات الراقصة مثل رابسوديات والرقصات المجربة لبرامز، وفالسات شتراوس، وبعض مقطوعات تشايكوفسكي، وموتزارت (المارش التركي مثلاً)، وبتهوفن (إلى اإليز) مثلاً. تتميز بتوضيح اللحن الأساسي الذي غالباً يشد أذن المستمع قبل أن يستمتع بما يوفره المؤلِّف من تغطية هارمونية. وفي كل ما سبق، يستعرض المؤلِّف براعته في سبك التناغم.
الرقصة المجرية رقم 5 – برامز https://www.youtube.com/watch?v=Nzo3atXtm54
المارش التركي – موتزارت: https://www.youtube.com/watch?v=HMjQygwPI1c
إلى إليز – بيتهوفن: https://www.youtube.com/watch?v=_mVW8tgGY_w
في بداية القرن العشرين، وأغلب الظن بسبب الحروب وآثارها واضطرار الناس للعمل الجائر، تقلص اهتمام الكثيرين بحضور حفلات الموسيقا الكلاسيكية التي بدأت تنحصر في نخبة، وبسبب ظهور وسائط أخرى للاستماع كالغرامافون وأشرطة التسجيل لاحقاً، ظهرت معه ظواهر جديدة تبدت في اقتناء الأعمال لسماعها في المنزل. واتجهت الناس للميلودي الواضح، السهل سمعياً أكثر من غيره، ما دعا إلى ظهور وانتشار أنماط هي حركية غالباً تتميز بثيمة بسيطة أنيقة تشد أذن المستمع منذ الوهلى الأولى. حيث تقلصت الحركات الأربعة إلى أقسام لا تتجاوز ثمانية ميزورات تتميز بالتحريك المختلف تبعاً للنمط المعني.
من الأمثلة عن هذه الأنماط:
التانغو الأرجنتيني، ومقطوعات الموسيقا الكاريبية (لتمييزها عن اللاتينية) وهي مكتوبة غالباً لآلة نفخية ما. انتشرت هذه الأنماط بسرعة حول العالم، مثل تانغو Cumparsita، والتانغو الأزرق.
الكومبارسيتا، وهي لـ Gerardo Rodríguez وهو من الأورغواي: https://www.youtube.com/watch?v=C0yzvOO8GZE
ومن الموسيقا الكاريبية التي حظيت بانتشار عالمي أذكر معزوفة Ciligi Rosa لعازف الترومبيت Perez Prado وهو من كوبا:
https://www.youtube.com/watch?v=PbgA_TiM04Q
أيضاً، معزوفة Petite Flower لعازف الكلارينيت الأميركي Sidney Bechet، أقدمها هنا من عزف Chris Barber: https://www.youtube.com/watch?v=_vmNrV-4rnY
ومنها أيضاً، أذكر معزوفة La Virgen de la Macarena لعازف الترومبيت المكسيكي Rafael Méndez، وهي هنا من تنفيذ الكوبي بيريز برادو، وهي النسخة التي شاعت في البلاد العربية في الخمسينات:
https://www.youtube.com/watch?v=14_zcOLnKcE
Espana Caniأو الغجرية الإسبانية، معزوفة للمؤلف الإسباني Pascual Marquina Narro ، غنية عن التعريف نظراً لشيوعها المتفوق عالمياً، هي هنا من تنفيذ أندريه ريو: https://www.youtube.com/watch?v=bP67TwGWUh4
من الأنماط المستحدثة أيضاً هي ثيمات الأفلام التي ساعدت السينما في انتشارها إلى جانب رشاقة جملتها الرئيسية، مثل
مقدمة فيلم “دكتور زيفاكو”، ومقدمة فيلم “رجل وامرأة”، وغيرها الكثير من الأمثلة. مقدمة دكتور زيفاكو: https://www.youtube.com/watch?v=4Yd2PzoF1y8
المقدمة الرائعة لفيلم رجل وامرأة، للموسيقي الفرنسي Francis Lai
https://www.youtube.com/watch?v=J00jr868okc
كما لاحظنا، انحسر الإسراف اللحني من 4 جمل إلى جملتين اثنين مخدّمتين حركياً بشكل رائع، وهو ما درج التأليف الغربي عليه منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم. انتشرت في السبعينات مقطوعة برازيلية El-Bimbo، مبشرة بنمط جديد يعتمد جملة واحدة فقط، طويلة نسبياً قياساً لسابقاتها، تعاد مرتين قبل الختام الملفت، وهي هنا من تنفيذ الموزع الكبير بول موريا:
https://www.youtube.com/watch?v=EAL5b1Gv0vY
بعد الثمانينات، تقلص التأليف الموسيقي الصرف الغربي إلى حدوده الدنيا،ويكاد ينقرض في أيامنا الحالية. كيف كان التأليف الموسيقي الصرف في الموسيقا العربية خلال القرن المنصرم؟ ما هي مميزاته عن غيره؟ وكيف تعامل معه كل من المؤلف والجمهور؟ هذا ما سنتعرف عليه في مقالات قادمة، إذا ما أعجبكم موضوع هذه الدراسة المبسطة.
.
*مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا
.
-تابعونا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews