رأي

“المجتمع المدني” .. النشأة، الغاية والوسيلة، والدور المرتجى .. يزيد جرجوس

في معرض البحث في مسألة تشكلات ما يعرف اليوم بـ”المجتمع المدني” كنت كتبت في مطلع عام 2019 مقولة للاستشراف والتأمل:

“هل تعلم أن محافل “البنائين الأحرار” أو ما عرف لاحقا باسم “الماسونية”، قد تكون من أوائل تشكلات عصر ما بعد الحداثة وسلطة المجتمع المدني”

من المعروف اليوم أن ما يسمى “سلطة المجتمع المدني” التي نتجت عن مساعي وتشكلات المجتمع المدني وهو تلك الروحية والمؤسسات التي تعبر عنها مثل (النوادي والنقابات والأحزاب والجمعيات الخيرية والاجتماعية والمؤسسات والتجمعات الفكرية والثقافية.. الخ) هي أحد تجليات ومفرزات فكر وعصر “ما بعد الحداثة” الذي نشأ كتطور موضوعي وغير موضوعي، فطري ومفتعل، عن وفي مواجهة الحداثة، فذلك المجتمع المدني سعى لمواجهة الدولة، ومحاولة مساندتها أو أخذ بعض أدوارها، أو حتى تفكيكها أحياناً، فهو ليس دائما تعبيراً عن المواجهة بمعناها السلبي للانتقاص والانقضاض، ولكنه أيضا يحتمل أن يكون ذراعاً آخر للدولة الحديثة إذا ما تمكنت هي من تطوير نفسها مع الزمن دون محاولة كسر جدلية هيغل في ولادة الفرضية الجديدة من حوار الفرضية الكلاسيكية مع نقيضتها الموضوعية.

ما تشير له المقولة أعلاه هو أن تلك النشأة الأولى ربما كانت تعبيراً إقتصادياً بالدرجة الأولى، أو ناتجاً عن مخاضٍ ما على مستوى وسائل الانتاج أو القوى العاملة فيه، حيث يؤكد كارل ماركس على المنشأ الاقتصادي المرتبط بتطور وسائل الانتاج وسبل تشكيل الثروة وحركتها وانتقالها وكل ما يشمله ذلك من صراعات أو جدليات طبقية.

يقول عالم الاجتماع الفرنسي (آلان تورين) في كتابه “ماهي الديمقراطية” ما يلي:

“لقد ولِدَ الحد من السلطة السياسية عن تحالف فكرة الحق الطبيعي مع فكرة المجتمع المدني الذي اعتُبِرَ في بداية الأمر بمثابة المجتمع الاقتصادي، الذي كانت فعالياته تطالب بحرية إقامة المشاريع والتبادل وطرح الأفكار”.

إن هذه الفكرة تتوافق على مستوى سبر النشأة مع فكرتي الأولى عن بدايات تشكل المجتمع المدني من خلال النظر إلى ذلك وفق منظور المصلحة الاقتصادية، فالبناؤون الأحرار كانوا في البداية شيء يشبه التجمع النقابي لمجموعة من عمال البناء الذين تداعوا للتضافر والمساندة والدفاع عن بعضهم. الفكرتان تنبعان من المستوى الاقتصادي، واحدة على مستوى القاعدة (اليد العاملة) والثانية على مستوى القمة (أرباب العمل)، وهذا لا يعني بأن واحدة منهما تَجُبُّ سياق الأخرى ولكنها تساندها في محاولة الفهم وتتفق معها في التوجه لفهم الدوافع اقتصادياً، بما ينسجم مع أطروحات ماركس أيضا. تورين نفسه يعود ليقول:

“إن ذهنية التبادل التجاري الحر تحولت إلى ذهنية ديمقراطية، تبعا لتحالف الحرية مع المساواة”.

إن المجتمع المدني يسعى بصورة واضحة للحد من السلطة السياسية، وإلا ما معنى طرح عنوان “سلطة المجتمع المدني”! فهل هذا نافع بالضرورة أم هو على العكس من ذلك ضار ومتآمر بحكم الواقع؟!.

إن المنشأ الاقتصادي وحده ليس كافياً لتعريف الواقع ووضع تصورات لمآلاته والأدوار التي يمكن أن يقوم المجتمع المدني بها، ولكنه يعطي كمّاً لا بأس به من الإيحاءات وربما المُحدِّدات أحياناً، فرأس المال حتى بتجليه الوطني غير المُختَرَق يعمل بصورة لا واعية وفق قوانين الاجتماع والاقتصاد السياسيين على تشويه وإضعاف السلطة التنفيذية، لأنه ببساطة سيحاول أن يُجَيِّر قراراتها وتوجهاتها لمصلحته هو. هذا بالمناسبة يتفق مع مقولة (تورين) أعلاه “المطالبة بحرية الانتاج والتبادل وطرح الأفكار” ولكنه أيضا يتطابق مع طروحات العلم والتاريخ، فابن خلدون يقول:

“إن تراكم الثروة والنفوذ يعمل على إضعاف السلطة.. السلطة تتطلب الرفاهية، ولذلك يحل الفساد في نهاية المطاف”

بينما يتخذ رأس المال الصغير طابعاً نضالياً أكبر لأنه على العكس من ذلك يجتهد في سبيل مواكبة النظام العام وربما إرضائه أيضاً، وهذا لا يعود لأسباب وطنية أو أخلاقية بالمطلق، فتلك القيم موزعة بصورة عامة على جميع المستويات ولا يصح ادعاء احتكارها، ولكن القطاع الاقتصادي الأصغر أسهل للانقياد والتوجيه وهو بموقع المحكوم للنظام العام، ويمكن من خلاله تجميع اقتصاد وطني كبير.

الحديث عن رأس المال بمستوياته هنا ليس ترفاً أو إقحاماً له في السياق، فالمجتمع الاقتصادي كما رأينا سابقاً شكل المبتدأ التاريخي لنشأة “المجتمع المدني”، كما أنه اليوم وعلى مستوى العالم لا يمكن إغفال تلك العلاقة العضوية التبادلية بين رأس المال وبين مؤسسات المجتمع المدني بمختلف تشكيلاتها. أغلب المؤسسات المدنية (أحزاب ونوادي وجمعيات) مرؤوسة أو مملوكة من قبل رجال الأعمال، وهي تعيش على تبرعاتهم ومساهماتهم التي يحصلون هم بالمقابل منها على “الوجاهة والدعاية والعلاقات”..الخ. كما أن التساؤل المفروض هنا عن سبب ذكر “البناؤون الأحرار” في سياقات هذا البحث، هو أيضا مشروع وللإجابة عنه أقول بأن ذلك يعود لأسباب بحثية منهجية، فمن خلال إلقاء الضوء على تاريخ النشأة الانتروبولوجية للظاهرة عبر الأمثلة، يمكننا فهم دوافعها أولاً، كما وأنه يمكننا تصور وتوقع مآلاتها أيضاً. لهذا نجد أن التوجس الكبير لدى طبقة واسعة من السياسيين والمثقفين والأجهزة من ما يسمى “المنظمات غير الحكومية” هو توجس منطقي يحدوه القلق من الأدوار التي قامت بها بعض تلك المنظمات وخاصة السرية في تفجير الفوضى في عدد من المجتمعات خلال العقدين الماضيين، وقد عُرِّفت بعض تلك المنظمات بالاسم بعد عملها على ما سمي “الثورات الملونة” في شرقي أوروبا، وبعد ذلك في بعض أنحاء العالم العربي.

إن صانع القرار تماماً كما الباحث العلمي يجب أن لا يكون رهينة لهذه التصورات المبنية على البحث التاريخي والعلمي، ولكنه ولأسباب علمية أيضاً يجب أن يكون منفتحاً على تصورات أخرى لا تخلو منها الحقيقة، فليس كل رأس مال “متورط” ولكنه يعمل وفق أجندته اللاواعية لتحقيق مصلحته، ولذلك تقع المسؤولية على الدول والحكومات لوضع الأطر المناسبة له لكي يعمل بحماسة دون أن يتغول، فيساهم في كتلة الاقتصاد الوطني ولا يسمح له بتشويه النظام العام وتجييره لمصالحه، وهذا يتم بالمؤشر العام من خلال إبعاد كبار رجال الأعمال عن السلطة كما فعلت روسيا خلال العقدين الماضيين، ولكنه أيضاً يحتاج تطويراً إدارياً وقانونياً تشريعياً مستمراً لمواكبة المتغيرات واللحاق بها، بما فيها المتغير الأبرز “الفساد”.

كما أنه ليس كل منظمة وجمعية أو تيار فكري أو ثقافي هو “عميل” أو بمثابة “اختراق للمجتمع” ويبقى الفيصل في ذلك هو البنية التشريعية المتوثبة للحاق بالتطور الاجتماعي، والمهم جداً أيضاً هو تلك البنية المؤسساتية لدى الدول التي يجب أن تكون نامية وقادرة بشكل يمكنها من استيعاب تلك الهيئات المدنية على مختلف تشكلاتها لتوجيهها وتحرير طاقاتها الإبداعية مع درء المخاطر التي قد يحملها البعض منها، خاصة في ظل عمليات التمويل الخارجي أو التداخل الإيديولوجي في بعض مؤسسات وتيارات المجتمع المدني.

 

إقرأ أيضاً .. بعقل بارد .. من سوريا إلى أوكرانيا ..

إقرأ أيضاً .. من نيكاراغوا إلى سوريا .. سلاح التجويع الشامل ..

 

كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى