أتحدث هنا عن “مايسترو” حقيقي، وليس “المايسترو” بالمعنى الدارج في الثقافة السورية الحالية، ففي هذه الثقافة المذكورة يمكن إطلاق هذا اللقب على أي موسيقي من الدرجة العاشرة، والأمثلة تزدحم!
قرأت منذ أيام قولاً منسوباً لقائد الأوركسترا الإيطالي “ريكاردو موتي Riccardo Muti” (*) يقارن فيه بين تكلفة الأوركسترا السيمفونية وبين تكلفة لاعب كرة قدم. النص مكتوب باللغة الانكليزية، تنص ترجمته على التالي:
“تكلفة الأوركسترا السيمفونية أقل من تكلفة لاعب كرة قدم واحد اليوم، ما هو الإرث الذي نتوقع أن نتركه لأطفالنا؟ الثقافة ليست لتحقيق الربح، بل للتثقيف. إذا لم يتغير هذا، فسوف يسود أناس سطحيون وخطيرون للغاية في الأجيال القادمة”… انتهى النص.
صدمني المضمون، فبحثت عن أصوله على الانترنت ولم أجد سوى رابطين اثنين فقط لا غير، والرابطان نشرهما شخص واحد، وهو بروفيسور الموسيقا (بحسب صفحته الشخصية) الأميركي “دونالد جورج Donald George” وهو أيضاً “مطرب” من طبقة تينور، تاريخ النشر هو 17 آب/أغسطس 2021. ثم توصلت إلى أن قول “ريكاردو” منشور على موقع ثقافي إيطالي منذ سنة 2014.
ما يصدم في هذه المقارنة هو عدة أمور:
أولاً – تتضمن المقولة بشكل غير مباشر تقليلاً من شأن الرياضة والرياضيين من حيث أهمية الموسيقا على الصعيد الثقافي، مع أن الرياضة ثقافة وحضارة لا تقل عن الموسيقا، وهي عريقة أيضاً، فالأوابد الفنية الإغريقية والرومانية الرياضية تشهد بمكانة الرياضة وجماهيريتها منذ أقدم العصور. وبتعاقب الحقب التاريخية حتى اليوم يتوفر للإنسانية منجزات رياضية يرقى بعضها إلى مستوى المعجزات، تضاف كلها إلى منجزات وحضارات أمة إرثاً متروكاً لكافة الأعمار؛ ولو كان ذلك سيؤدي إلى سيادة السطحيين والخطيرين لسادوا منذ حقب بعيدة.
ثانياً – هناك تناقض صارخ ما بين قول المايسترو ريكاردو: (الثقافة ليست لتحقيق الربح) وبين حديثه عن تكلفة لاعب كرة القدم! علماً أن النشاطات الموسيقية حول العالم تحقق أرباحاً خيالية أحياناً. لذلك، إن جازت المقارنة فيجب أن تكون مع رياضيين يحققون مكاسب على الصعيد الحضاري الثقافي وليس مع رياضيين يعتبرون الرياضة مصدر رزق. فلنتساءل مثلاً عن تكلفة لاعب في أولمبياد طوكيو، أو فريق متكامل حتى. أما لاعب كرة قدم محترف فيمكن مقارنة تكلفته السنوية بتكلفة حفل واحد للمغني “مايكل جاكسن” مثلاً، سيكون الفارق مذهلاً. ومن ناحية أخرى، هل كلفة أوركسترا “أندريه ريو” وكلفة حفلاته ومداخيلها على مدار السنة يمكن مقارنتها بكلفة لاعب كرة؟
لن ننسى أننا نتحدث عن “التكلفة” وليس عن المردود النهائي، فقد نال الرباع السوري مردوداً طيباً عن جهده العظيم الذي بذله، وهو بالتأكيد يستحق ما نال! ولكن إن تساءلنا عن تكلفة إعداد بطل كهذا فأي رقم سنحصل عليه؟ لا أظن أن عازفاً سورياً يُنكر استحقاق قيمة الجائزة (25 مليون ليرة سورية)، ولكن هل أن يمكنه يحقق إنجازه؟ فكما أن “معن” لن يستطيع عزف صولو كونشرتو كمان مندلسن، بالمقابل ليس لنا أن نقارن عازف الأوركسترا برياضي أهدى بلده ميدالية تُسجّل في إنجازاتها الحضارية على مستوى أوليمبياد. وبما أن (الثقافة ليست لتحقيق الربح) بحسب ريكاردو، فالحق أقول أن كل مثقف قد نال أجره عند أي إنجاز يقوم به!
ثالثاً – ربما تكون تكلفة لاعب كرة القدم ميسي الذي انتقل إلى ناد آخر مؤخراً، هي برأيي الحدث الذي حفز “دونالد جورج Donald George” على نشر ما نشره بإعادة أقول “ريكاردو موتي” بعد سبع سنوات. فإن تمثّلنا “ميسي”، فأي “سيادة” تحققت؟ وهل حقاً هو وأمثاله قد سببوا فعلاً ظهور أجيال: (سطحيين وخطيرين للغاية)؟! … هل عزف نزوات “باغانيني” يخلق جيلاً ينافس “نيتشه” معاصراً؟ وهل أجر لاعب الكرة سيخلق جيلاً من السطحيين الخطيرين؟
كموسيقي من هذا البلد، أشعر بمعاناة موسيقييه، وأعاني معهم عصراً آلت الموسيقا فيه إلى مآلين مخزيين، الأول هو حمل لقب “مايسترو” جزافاً والاستعاضة عن الأوركسترا بجهاز وحيد يعزف أغنية كاملة بنقرة واحدة بعد اتباع دورة مكثفة بعنوان: (تعلم العزف في خمسة أيام)، وتحصيل أجر شهري لا يقل عن 750 ألف ليرة سورية بجهد شخصي.
أما المآل الثاني فهو الاتجاه نحو الآكاديمية والمجال الثقافي، وإنجاز حفلات راقية المستوى بعد دراسة لا تقل عن خمس سنوات مضافاً إليها سنوات متعددة من الخبرة قبلها وبعدها، يحقق فيها العازف دخلاً شهرياً يعادل دخل المآل الأول في يوم واحد.
هذه هي حقيقة ممارسة الموسيقا في دول متعددة وليس في بلدنا فقط، فلا يحق لأصحاب المآل الأول مقارنة علومهم وإنجازاتهم بالطرف الثاني لأن هدفهم ماديّ ولا يمكن اعتبار ذلك عيباً إطلاقاً فهو أسلوب حياة. ولا يحق بالمقابل لأصحاب المآل الثاني مقارنة علومهم وإنجازاتهم ومواردهم بالطرف الأول لأن هدفهم إنساني ثقافي في المقام الأول، وهو بالتأكيد فخر لا يُدانى.
.
(مراد داغوم – مؤلف، موزع، وناقد موسيقي – سوريا)
.
(*) يُصَنَّف “ريكاردو موتي” على أنه خامس أفضل مايسترو لقيادة فرق الأوركسترا في العالم، بحسب استطلاع رأي أجرته شركة Bachtrack عام 2015.