الفن، وبعض السياسة.. تفيد أبو الخير

الحروب في أبسط الأحوال تعيق حركة الفن .. تبدأ الحقيقة بالبحث عن مكان للاختباء حينما تطلق المعركة رشقاتها الأولى. وتظهر مكان الحقيقة حبيبات تنتشر بالهواء وتتقلب أمام الأعين بوجهين أحدهما كاذب والآخر كاذب أيضاً .. لأن الحق ليس له وجهان.
وحينما تهدأ النفوس ويتكرس السلام .. تظهر روائح العطور من إحدى الزوايا .. إنها الحقيقة تبحث عن ميدان نظيف لتظهر فيه وتنشر عبقها انطلاقاً منه، فإن لم تجد هذا الميدان، فإن المعركة التي تأكدنا أنها انتهت .. تكون هدنة عامة .. لأنه عندما تكون جميع الحقائق معلنة فلا يمكن أن تحدث معركة. لا تحدث الحروب إلا إذا كان هناك جزء من الحقيقة عصي على الظهور.
هنا تشرق شمس الفن .. الفن هو الوسيط التاريخي بين الحقيقة والخيال، هو الجسر الذي يتيح عبور الحياة من جيل إلى جيل، ما يسمى بمفاوضات السلام، ليست سوى مفاوضات لتغليب الفنون على الجنون. الفن هو المندوب السامي للعقل البشري في كل العصور، وإذا لم يحقق الفن هذه المهمات فهو ليس سوى خربشات وتمارين. ونحن الذين تتلمذنا على سابقينا وتعلمنا من أستاتذنا فحريّ بي أن أذكر دائماً الدكتور المصري ذكريا ابراهيم الذي قال إن الفن خرج من المعبد في ولاداته الأولى .. فالإنسان رسم الإله الذي عبده على جدران الكهوف، وغنى له، وكتب فيه الاشعار.
الفن كامن في كل نقطة من الوجود تحمل الإبداع .. توازن البروتونات والنترونات في الذرة هو فن الجوار، انتظام الأشعة وانعكاس الضوء والانعراج هو فن، أطياف العناصر وارتباطها بالبنية الذرية هو فن، وهو مصدر كل الألوان التي نراها اليوم من الطبيعة وقوس قزح إلى الجوال والتلفزيون. لولا الفنون لكانت الحروب تعتصر تاريخ الإنسانية كل يوم، وتستهلك الحضارة ومنجزاتها وتجعل منها عنصراً أو خادماً في سبيل المعركة. وكلما أشرقت أنوار الحضارة في مكان .. نرى فيها الفنون وقد أشعت، لأنها حوامل الحضارة وبراهينها.
والفن هو أيضاً مقياس التمدن اللحظي. وصلت أوروبا إلى كل مناطق الأرض، وانتبجت خزائنها بخيرات إفريقيا وشرق آسيا وأمريكا الوسطى والجنوبية عبر قوتها العسكرية الفائقة مقارنة بالحالة المزرية التي كانت تعيشها تلك الشعوب، وكثير منها كان في حالته البدائية، كان لابد من الكشوف الجغرافية كبداية لتحقيق التواصل البشري، ولكن الحروب كانت ضرورة أيضاً يفرضها محرك التاريخ .. لماذا؟
لأن هناك حقائق مفقودة بين الجانبين، هناك فروق كبيرة في المدنيّة، واختلاف في الأهداف، وتباين كبير في القدرات، واختفاء للحقائق بين الطرفين، فالنهاية أن تحدث المعارك في البحار وعلى الأرض وتتعلم الشعوب دروساً جديدة، أهمها أنها ليست لوحدها في هذا العالم، فإما أن تُستعبد وتقدم ثرواتها، أو تواجه الموت، فمنها من مات ومنها من استُعبد إلى أن عرف الحقائق التي غابت عنه دهراً طويلاً .. عرف كيف يبني الدولة القوية بالعلم والمعرفة والتنوير وتحقيق مصالح أمته وشعبه، وتجاوز الخلافات التاريخية المقيتة المبنية على صراعات دينية ومذهبية سببت عبر مئات السنين مئات المعارك التي تهد حيل الشعوب .. معارك هدفها فقط الانتقام والتمديد لصراعات بين أفراد وقبائل لها مراكز دينية هامة.
لاحظوا ماذا فعلت القداسة في إفريقيا.. كل الديانات والتعاويذ والأدعية والأئمة والكهنة والمعابد التي كانت منتشرة من جبال أطلس حتى البحر الأحمر وصولاً رأس الرجاء الصالح، ومعظمها ديانات سماوية لم تمنع الاستعباد وسرقة الثروات الذي استمر أربعمئة سنة. وحدثت المعارك وهُزم الفقير المتخلف وانتصر الغني المترف المستعبِد الطاغية وقَتل الأفارقة واستعبدهم وأخذ ذهبهم أمام أعينهم جيلاً بعد جيل، وهم ما زال كثير منهم يظن أن الخلاص في الغيبيات والطلاسم ويسترشد بكتب عمرها مئات السنين.
بقيت القصة على هذا المنوال في كل الأرض ولم ينج إلا من وقف يواجه احتكار الحقيقة ويطالب بالمعرفة. لذلك نهضت الصين عندما تلقفت حقيقة التجارة والصناعة، ونهضت ألمانيا عندما قررت أن تصارح شعبها بأن غزو أوروبا كان عبئاً على وثبتها التي خطط لها بسمارك. وأمثلة كثيرة..
حركة الفنون في دولنا أراها بغاية الأهمية لأنها تدل على يقظة كامنة، تشير إلى رغبة بالنهوض، تؤسس لمراحل قادمة، نحن ندرك أن الوحدة العربية قد تكون مختبئة تحت التراب بعمق عشرين متراً على أحد أقمار المشتري، لكننا بالعلم والمعرفة قادرون على إرسال بعثة تأتي بها. والفن قد يكون بوابة الهروب المثلى لتحرر الحقيقة وتخرج من مخابئها وتنطلق عجلة الحضارة.. قد يكون الفن أضعف من أن يواجه السياسة، لكنه قد يحرجها ويلزمها بأن تتحرك أو تغير خطتها، أو تفرج عن الحقيقة.
*إعلامي وكاتب .. سوريا
.
لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews