العَلمانيَّة .. العِلم وأمور أخرى .. يزيد جرجوس

تتخذ العَلمانيَّة (بفتح العين) موقعاً يشغل بال الكثيرين اليوم، خاصة في المجتمعات المتعبة من الحروب والأزمات، وهذا يبدو مفهوماً، فأغلب الحروب على مدى التّاريخ كان الدين الاجتماعي (النسخة المتداولة منه في مجتمع ما) حاضراً ومتداخلاً معها، أو مسبباً لها، وبدقة أكبر كان مستخدماً فيه، وهذا أيضا مفهوم لسبب تشابك وتلازم مسألة الدين مع الحكم عبر التاريخ، فابن خلدون يقول أنَّه “لا يمكن بناء دولة بدون عصبية، والعصبية الأقوى هي الدين”، لذلك فهو لازم للاستخدام في كل التشكلات والانعطافات السياسية عبر التاريخ، وهذا بالطبع يمكن أن يكون سلبياً أو إيجابياً، فليس كل استخدام للنظرية أو العقيدة التي تؤمن بها مجموعة من البشر، هو بالضرورة أمر سلبي.
حديث العَلمانية مطروح بصوره المتناقضة بين من هو معه ومن هو ضده، وعلى كل المستويات، ابتداءً من المفكرين والمثقفين ورجال الدين، ومروراً بالشرائح الاجتماعية الأكثر ثقافة وتعلماً، وصولاً إلى تلك الأقل معرفة وخبرة، والكل لديه موقف راسخ، فهناك من يعتبرها “الحل”، وهؤلاء غالباً لديهم مشكلة مع دين معين أو طائفة محددة، بمقابل من يعتبرها “المشكلة”، وهؤلاء بدورهم ممن لديهم انتماء محافظ لدين أو لطائفة، والقليلون جداً ممن يعتبرونها أحد التشكلات الموضوعية للصيرورة والنهضة التاريخية للمجتمعات، ويعتقدون بأنها لا تتعارض مع الدين أساساً.
البحث في العَلمانية، يمكن أن يقسم على مستويات، وإلى أقسام، فالعَلمانية قد تكون على مستوى الأفراد، و أيضاً على مستوى المؤسسات والدول، كما وأنها عند الفرد والمؤسسة، قد تكون كعقيدة، وقد تكون في السلوك، فماذا نقصد بكل ذلك، وهل تجيب العلمانية على كل الأسئلة والإرهاصات الإجتماعية والسياسية، التي تدورحولها..!
توضيح المفاهيم..
لنفصل بين قسمي العلمانية، كسلوك ومنهج، أو كعقيدة ومذهب. فإذا كانت العلمانية، تعني وبالمختصر “فصل الدين عن الدولة”، فهذا يعني تعامل الدولة أو المؤسسة مع أفرادها بمعزلٍ عن خلفياتهم الدينية أو المذهبية، وينسحب هذا في المجتمعات المتمدنة إلى العرق والمنطقة وغيرها، هذا على جانب السلوك، أي أن الدولة تسلك سلوكاً عَلمانياً، هذه الحيادية في سلوك الدولة والمؤسسات، ليست مطلقة ولكن نسبية مثلها مثل كل الأمور الإنسانية التجميعية، حيث تتواجد بنسب معينة كوصف للسلوك قد ترتفع أو تنخفض، انطلاقاً من هذا ولأن العنوان الدارج “فصل الدين عن الدولة” يبدو إقصائياً في صيغته أكثر مما يوحي بالقبول والتفهم، والعلمانية نفسها يجب أن تكون قبولاً وتسامحاً وإلا كانت عكسها، فإنه يمكننا إعادة صياغة التعريف ليكون:
العلمانية هي سعي لتكريس مبدأ عدم التمييز بين المواطنين بناء على انتمائهم الديني، أو حتى اللاديني أيضاً.
الأمثلة من الواقع ربما ستكون أفضل مقاربة لشرح هذه التفاصيل ومعانيها التي لا تنطوي على أحكام بقد ما تُلقي الأضواء هنا وهناك في سعيها للتنوير.
إن دساتير بعض الدول الغربية، لا تحدد دين رئيس الدولة فيها، كعنوان عريض عن علمانية هذه الدول، وفي معظم الدول الغربية الأخرى، والتي تعلن علمانيتها، فإن دساتيرها تحدد دين رئيسها أو ملكها، وفي هذا سلوك غير علماني، لكنه لا ينسف بالضرورة علمانية تلك الدول.
في الشرق نجد سوريا مثلاً، و دستورها يُحَدِّد دين رئيس الدولة، فتُخفق هنا في تطبيق عَلمانيَّتها التي تُعلنها بصورة مواربة قليلاً، ولكن ذلك لا ينسف بقية سلوكياتها العلمانية الواضحة، في إيران كَفِل الدستور لكل من (الأرمن واليهود والآشوريين والزردشتيين) حق التمثيل في البرلمان، وهذا سلوك فيه من العَلمانيَّة شيئاً، لجهة الإعتراف بحقوق هؤلاء، وإعطاءهم موطئ قدمٍ في السلطة التشريعية، لكن هذا السلوك لا ينفي دينية الدولة الإيرانية، قد يرى البعض أيضاً، وعن حق، أن إعطاء “كوته” طائفية للوظائف، أو للمجالس، هو بطريقة أو بأخرى يحمل تمييزاً بين أبناء المجتمع طائفياً، وهذا أمر غير عَلماني، مع أنّه يبدو كضمان لحقوق الطوائف، ولكن هذا الضمان ينطلق أساساً من تقسيم المجتمع على أساس طائفي، وهو أمرٌ يخالف البيئة المدنية التي تسعى إليها الشعوب، لكنه يدعم روح العدالة في طريقها إلى المزيد من المساواة، فعندما تسود روح المواطنة العالية في المجتمع، وتتجذر العلمانية في سلوك المؤسسات، تصير هي الضمانة لحق الاعتقاد الديني وممارسة الشعائر الدينية بحرية لا تتجاوز على حرية الآخرين، أما في الإدارة والسياسة والحكم، يكون التمثيل بناء على الكفاءة والاختصاص ليس إلا، فيُمَثَّلُ المواطن الصالح، بمواطنٍ صالحٍ مناسب.
أما كيف تكون العَلمانيَّة عقيدة عند الدولة، فذلك عندما تُعلن هذه الدولة عدم اعترافها بالدين، وترفض فكرة وجوده، وهنا وإن كان هذا حق مكفولٌ للأفراد، بأن يرفضوا الإيمان بالدين، وأول من كفل هذا الحق هي الشرائع الدينية ذاتها، ولكنّه بالنسبة للمؤسسة، يصبح جنوحاً باتجاهٍ معاكس للعَلمانيّة، فالعَلمانية قبول واعتراف، بل وضمانة للحق بالوجود والإعتقاد، ولا يمكن أن تكون رفضاً وإقصاءً، المؤسسة إذ ترفض الاعتراف بالدين، تنحو نحو فكر المتطرفين الدينيين، والذي يرفض الاعتراف بالآخر ويكفره، لذلك بالضبط نجد أن تجارب التّاريخ أعطت أمثلة واضحة كيف أن كلاً من السلطتين المتشددتين العَلمانيَّة والدينية، تنتج الأخرى بعد حين، فهما وإن ظهرتا متناقضتين في الظاهر، لكنّهما متشابهتان في الجوهر، وخير مثال على ما نقول، هو تطور وانقلاب نظامي الحكم في إيران وتركيا خلال القرن الماضي، من العلمانية المتشددة إلى التشدد الديني وبالعكس، وأكثر من مرة، واليوم بينما تتوجه السلطة الدينية في إيران لإضفاء المزيد من المرونة والحرية على صعيد الاعتقاد، تتوجه تركيا في ظل حكم العدالة والتنية إلى التشدد المكبوت تحت قناع “العَلمانيَّة”.
على صعيد الأفراد، فإن الدّين نفسه كفل حرية الاعتقاد، فالشرائع بصلبها لمن يحسن قراءتها وفهمها، علمانية تماماً، فعندما يقول القرآن ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) و ((لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)) ويقول المسيح ((من ليس ضدي فهو معي)) نكون أمام فكرٍ يمتلئ قبولاً بالآخر، ويعطيه حق الوجود والاعتقاد.
في نفس الإتجاه أعتقد أن الإنسان حرٌ في أن يؤمن بما يشاء، فهو يمكن أن يكون عِلماني العقيدة أيضاً، يؤمن بالعلم ولا يعترف بالدّين، إذ أن هذا لا يترتب عليه بالضّرورة رفضٌ للآخر، فعلى صعيد السلوك و هو مستوىً مختلف، بإمكان الفرد، أن يتصرف بعَلمانية أياً كان اعتقاده، دينياً أو عِلميّاً، بحيث لا يُميِّز في تعامله مع محيطه على أساس الاعتقاد والدين والطائفة.
هنا لا بد من ملاحظة على صعيد الأفراد، و الذين يعتقدون بجدوى العلم ليس إلا، فإنه ولأن البحث العلمي لا يؤمن إلا بالتجربة والدلائل، فإن الاعتقاد بعدم صحة الدين، وأحيانا بعدم وجود “الله”، حتى وإن وُجِدَت عليه الكثير من الدلائل و القرائن، ولكنه يفتقر إلى الأدلة القطعية، لذلك ومن باب العلمية في التفكير، وجب عدم التورط في رفض أو إنكار إحتمال وجود الماورائيات، ولأسباب علمية، وتالياً يكون الإنسان العلمي هو الأكثر قبولاً و اعترافاً بالآخر فكرياً.
في المقابل فإن المنزلق الأخطر الذي يقع فيه المحافظون دينياً وعقائدياً، والذي يودي بهم دائماً إلى عكس مبادئ عقائدهم التي دائماً تبنى على الحرية والإنسانية، هو قمع الآخر المخالف أو المختلف، ومحاولة ضمه قسرياً إلى الجماعة التي ينطلق منها المحافظ، فيتحول هو بالضرورة إلى متطرف، لأن الشّعرة التي تفصل الإيمان القوي عن التطرف، هي المسافة التي يقطعها المؤمن بين الالتزام بتعاليم العقيدة، وبين فرض هذا الالتزام على الآخرين.
العَلمانيَّة .. خلاصة ..
في النهاية .. أرى في عَلمانية السلوك، إن على مستوى الدولة والمؤسسات، أو على مستوى الأفراد المواطنين، الضمانة والحضن لحرية الفكر والاعتقاد بين أفراد المجتمع على صعيد الأديان ومذاهبها، وأيضا وانطلاقا من ذلك وبناءً عليه إلى ما هو أوسع على صعيد العقائد الحزبية والفكرية والسّياسيّة، وصولا إلى كافة التنوعات في الإنتاج الإنساني، لأن القبول سمة كاملة لا تتجزأ.
اعتماداً على كل ما سلف، أعتقد أن “تطبيق” العَلمانيَّة .. هو ليس سوى صيرورة من عَلمنة المجتمع، التي يجب ولا يمكن أن تكون، إلا في إطار نهضة مجتمعية علمية وثقافية متصالحة مع الدين، ولا تُهمل تطوير وسائل الإنتاج، وهذا سيكون خير طريق لكل التطبيقات المدنية المتقدمة، بما فيها الممارسات الديمقراطية.
إقرأ أيضاً .. “العقوبات” والمساعدات .. في ميزان واقعي ..
إقرأ أيضاً .. الدين – السلطة – الإبداع .. منشأ واحد لأدوار متشابهة ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب