مهندسون شعراء من حمص يتحدثون عن العلاقة بين الهندسة والشعر .. سهيلة علي إسماعيل ..

ما العلاقة بين أبيات الشعر المنظومة في قصيدة وبين الهندسة ؟، وهل يشبه التخطيط لتأليف قصيدة عمادها الكلمات إعداد مخطط لبناء متكامل عماده البيتون والحديد ؟، وشتان بين القضيتين . لكن في حمص وغيرها لم يجد المهندسون ممن يقرضون الشعر ثمة فرق بين الأمرين . فكتابة القصيدة تتطلب فكراً سامياً و انعتاقاً للروح في أبهى تجلياتها, وكذلك التخطيط لبناء جميل ومتين يتطلب عينا ثاقبة ويداً ماهرة متفنة لعملها. فالمهندس – والحالة هذه- أقدر على كتابة الشعر من غيره. وهي ظاهرة جميلة وملفتة للنظر في مدينة حمص, تميزها عن غيرها من المدن السورية وتُكسبها المزيد من التنوع الأدبي والثقافي.
فما العلاقة بين الشعر والهندسة؟..
وجهنا السؤال إلى عدد من المهندسين الشعراء في حمص وكانت البداية مع الشاعرة ريما خضر فقالت:

من “أحسن الكلام ما قامت صورته على نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم”، مقولة أبو حيان التوحيدي نبتدىء دوماً، كما هي الهندسة تقوم على أسس البناء والخلق وتجديد المتوارث دون الخروج عن الإطار العام والمبادىء الأساسية لماهية الهندسة، كذلك يحلق الشعر في فضاءات هندسية ومدارات لا تتسع لخيال الشاعر فتراه يحلق في سماء الإبداع للهندسة تدعم البناء الشعري وتجعل بنيانه مرصوصاً أكثر، والسمة الشعرية الهندسية تدلك عليها عناوين القصائد:
ما غاب ظلَّك عن أحلام ذاكرتي
مهما تناءى فنبضُ القـلبِ موضعُهُ
أعيـــدُ نفسي إمّــــا قلــــتُ عابدةٌ للروح..
يا روح روحي…أنت مرجعهُ
فـــــالعين ترنـــــو ولكن
ليس منتبهاً إنّ المـــديحَ إذا مــا لاح يُرجعــه
روحي تطــــــيرُ إلى دُنيــــاكَ راحلةً
مهما تداري فكشـــفُ السِّرِّ يوجعهُ
مـاذا أقـولُ وفي قلبي هــوىً
نطِقٌ كلُّ الكلام وما حرفٌ سيسمعهُ
من مجموعة ” في مديح الزنبق” ..
أما الشاعر المهندس راتب سليم إدريس فقال:

يُرخِي المخزونُ المعرفيّ بظلاله على أيّ نشاطٍ يقوم به المبدع .. وهذه حالٌ طبيعيّةٌ فالمؤثّرات تنعكس بين ثنايا العمل خصوصاً بعدما تحضر بديهيّةً في الذاكرة .. وهكذا فكثيراً مايُدرَك القاع الثقافي للمبدِع من ديناميّة عطائه فتقرأ للشاعر مصطفى خضر لتدرك أنه خرّيج فلسفة وللشاعر نزار قباني لتدرك أنه يصدر عن حقوق وللشاعر حسان الجودي فعن هندسة بيئة وهكذا …
وقد أثّرَتْ وأثْرَتْ الهندسةُ المدنيةُ كتاباتي مقرونةً بتعلّقي بالفيزياء والرياضيات علاوةً على الاهتمام بالهيكليّة ودقّة موسيقا الشعر وبنائه الجمالي فلم ينفلتْ من لوثةِ واحدةٍ منها على الأقلّ .. وأتصوّر أنّ الأهمّ هو حضور منهج العلم في ماهيّة القصيدة ذلك من خلال تجنّب المغالاة وورديّة الأحلام والورم … وبما يعكس قبولاً لدى الكثير من المتلقين ..
أخصّ بعد تقدّم العلم وانكشاف الكثير من أسرار الطبيعة فصارت الحاجة ماسّةً لأن يتماهى العمل الشعري بين الشعريّة الحقّة والمعقول من الفِكَر .. ولِيَظهرَ انكفاءُ الشعر المبالِغِ بالوصفِ والمولَعِ بالأنا والذاتيّة أمام التأمّلي التأويليّ والكثير من الوجداني ذي الرسائل .. هذه قصيدة لي ربما تلامس أغلب الجوانب التي ذكرتُها:
.يا فارس هذي الريح..
يصغرُ حجمُكَ يصغرُ – حتّى تغدوَ جسداً – مفقودَ الأبعادْ …
يغدوْ حتّى تصبحَ لا كتلةَ..لا وزنَ…
كأنّكَ مجهولٌ ببلادْ
فافتحْ أذنَيكَ لتسمعَ .. مَن أنتَ ؟ و ما أنت؟! .
“وكلّ مجامع علمِكَ – لا تغدو شططاً – يتخلّلُ في قفرٍ و وهادْ !!
يا هذا يصغرُ حجمُكَ فاقرأْ وشمَكَ باليأس ..
الحزنِ .. صراعِ الأضدّادْ …
أنتَ الغاربُ – مابين ضجيجٍ وسكونٍ..
والراحلُ في حلمٍ لا تصحو منه ..
وتهمس أنك – بعض طنين العلمِ.. وبعض الأنجاد
اِصحُ من الغفلةِ ! فالوهمُ العائش فيه .. يدوم طويلاً ..
لايُغني أو يُسمِنُ من جوعٍ …
بلْ يجعلُكَ طويلَ الأمدادْ ..
رحلوا … ما عاد ذووكَ يُشيدون بعزّكَ ..
أو يروون ثراكَ بنعماء الخصبِ ويبنون الأمجادْ …
خفّفْ مِن أحلامكَ … وارحلْ في غيمٍ يهطلُ ياذا الواهم …!!
واجعلْ ظلّكَ حجمَ الحدِّ وحجمَ العدِّ وحجمَ أصابعَ عشرٍ ..
بل !! .. حجمَ اللّا أبعادْ …
يا فارس هذي الريحْ !!
وقالت الشاعرة المهندسة عذاب رستم:

بالشعر نمد جسور الإنسانية، وننقب عن ثروات الأرواح ونبني الطرق بين القلوب كما في مجالات الهندسة تماماً، فالشعر والهندسة خطّان متوازيان، والمهندس يعبّر عن مشاعره ويعرضها بتركيبته الفكريّة، ينقّب عن معاني الجمال ويبني مدناً من المجازات ويصل بين الأحرف والكلمات عبر أسلاك تحمل التيار المتدفق من الأحاسيس، ويزرع الشجرة المتأصلة جذورها بالعطاء لتسمق فروعها ويتهدّل ثمرها..
وكتابة الشعر بالنسبة لي هي انعكاس لعالمي الداخلي، أكتب الشعر لأعبر عمّا يغور في أعماقي، يهزّني هزاً عنيفاً ليسقط من أغصان النفس ثمرة رحلة من المعاناة والصراع، هو تفرّد ذهني خالٍ من جميع الأقنعة .. أو ربّما هو انتصار معنوي ننجز به على الصفحات ما أخفقنا فيه على أرض الواقع.
فنجانه المُمِل
يجالسني
كممثلٍ لا يغضب ..
بالأمسِ التقينا والطّريق
يعضُ أصابعه
يئن خفية عن خطواتنا ..
النّسيانُ اليومَ حاضرٌ
عبثاً أبعثُ ألحاني
و كأنّي أُحركُ بشفتيّ
ملعقةَ قهوةِ فنجانه المُمِل ..
تطوّعتْ يداي لتمسحَ خجلي الممزوج مع أحمر الشّفاه
ظنّنتُ أنّي وحيَّ فلسفته الرّشيقة
فجئته بحديثٍ يفوقُ علوَ كعبي
وبدأتُ بالرّقص على حوافِ .. فنجانه المُمِل ..
شرعَ الدّخانُ بالهروب من أنفاسه، من الطّاولة، من النّافذة
تصلّبتُ مخافةَ التّسلل إلى مسامي
ليصطادَ آخرَ تنهيداتِ جلوسي
يزرعَ شوكةَ صحوتي
فتنزفُ أعصابي خذلاناً لامتلاء .. فنجانه المُمِل ..
رشف رشفته الأخيرة على حذرٍ
ويا لصلاتي التي ما برحت فاهي
باستعجال المخاض و التخلصِ من رحم ذاك المقهى
و شريكي في الحياة
فنجانهِ المُمِل ..
حديثه بدأ بالاصفرار و أنا بدأتُ بالاخضرار
نضجت ثمرة / التوبة/
سقطت مني عنوةً
سلّة أذنه تلقتها بكل غضب
تعرى بريستيجهُ أمامَ بطولتي
ضربَ النار في عينيه
وكأنه كومبارس أمريكي
اشتعلَ المقهى بمااا فيه
وحدنا أنا و فنجانهِ المُمِل
وحدنا بقينا
نتبادلُ النظرات الباردة
أنا وفنجانه المُمِل ..
*كاتبة ومترجمة من سوريا