“العقوبات” والمساعدات .. في ميزان واقعي .. يزيد جرجوس

نظراً لتشابك مسألتي “العقوبات” والمساعدات في سوريا إثر الكارثة الطبيعية الكبيرة التي أصابتها، يبدو أننا نحتاج إلى بعض التفكيك للمفاهيم والمجريات التي دارت رحى الحديث عنها بصورة واسعة خلال الأيام الماضية، طبعاً مع التضارب في وجهات النظر والتوجهات أيضاً، فلقد رأينا أغلبية واسعة من العرب والسوريين بدأت تناهض العقوبات وتعلن استعدادها لمد يد العون لسوريا دولةً وشعباً، وطالعنا بنفس الوقت زمرة قليلة من السوريين الذين بدؤوا حملة شعواء لمنع وصول المساعدة وللحفاظ على “العقوبات” والحصار الذي مازال يطبق خناقه على السوريين منذ 12 عام.
بداية لا بد من المرور على المؤكد ومن منطلق القوانين الدولية فإنه لا يوجد شيء اسمه “عقوبات” ولا شرعية لها لا كإجراءات ولا كتسمية، فما يحدث منذ مطلع الحرب على سوريا هو مجموعة من الإجراءات العدائية التي اتخذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وهدفت إلى حصار الدولة السورية على المستوى الدولي، واتخذت هذه الإجراءات لنفسها أثراً كبيراً يتشابه مع “العقوبات لو فرضت قانوناً بصورة أممية” نتيجة سطوة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وسيطرتها على المؤسسات المالية الدولية وأنظمة التحويل، مما دفع بمعظم الدول والشركات الكبرى للامتثال لإرادة الحصار الأميركي على سوريا، تجنباً للإرهاصات التي ستعاني منها على الصعد آنفة الذكر فيما لو بادرت بالعلاقة التجارية مع سوريا أو مع شركات سورية.
هنا يسعنا القول بموضوعية أن من يحاصر شعباً بالمبدأ لن يهتم بأمر الكوارث الطبيعية التي ستصيبه، خاصة وأنه هو من تسبب له بكارثة تفوق بأثرها أثر الكارثة التي حصلت مثلاً في سوريا مطلع شباط الحالي. ولكن الحالة العامة من الرأي العام العالمي الذي أبدى تعاطفاً كبيراً جداً مع سوريا، وهذه المرة متخلصاً من آثار الابتزاز السياسي والإعلامي الذي عاناه هذا الرأي خلال العقد المنصرم، والذي إما شوه وجهته أو حجبها عن التعبير عن ذاتها، أدت إلى إحراج الإدارة الأميركية في موقفها المتسلط تجاه الشعب السوري، ولكن ذلك لم يكن ما أدى بالضبط للتغيير البسيط الذي اضطرت لاتخاذه عبر إعلانها عن “الرفع الجزئي للعقوبات فيما يخص عمليات التحويل المالي” منذ أيام، فإن الحقيقة تنزع أكثر للتعبير عن خشية الولايات المتحدة من بدء تصدع جدار الإجراءات العدوانية تجاه سوريا على وقع ميل الكثير من الدول وخاصة العربية لكسر ذلك الحصار، متأثرة بالموقف العام لشعوبها ولحالة التغيرات الدولية العميقة التي ضربت شكل النظام الدولي الأحادي خلال العام 2022 على وقع المواجهة الغربية الروسية، والتي بدأت تضعضع ذلك النظام وتبشر بولادة عالم متعدد الأقطاب تتخذ فيه الدول الشرقية والجنوبية مكانة متقدمة وربما سيدة أيضا مثل روسيا والصين والهند وغيرها. هذا شجع الكثير من الدول للبدء بتلمس طريقها للإعلان عن مواقف أكثر مرونة ورغبة في التعاطي مع سوريا ضمن رؤية أكثر شمولية للسير في الخط الذي أعلنته روسيا لتغيير قواعد التعاطي على الساحة الدولية سياسياً واقتصادياً ومالياً، فكارثة سوريا فتحت كوة في جدار العزل الدولي المحيط بالإرادة الأميركية وبدأت الدول تعمل على تكبير هذه الكوة.
في إطار الحديث عن العدوان الأميركي على سوريا، لا يمكن إهمال الحقيقة التي تقول بأن المعتدي كان يعلم وبأسلوب علمي ممنهج أن حربه ستفرز تجاراً لها وفساداً وتضخماً في الأنا الفردية التي ستزيد الطين بلَّة. وهذا أمر علم اجتماعي ثابت، وهو لا ينتقص من القضية الكبرى والأساس وهي المطالبة برفع “العقوبات” عن سوريا، فهي محقة وضرورية أكثر من قضية المساعدات بالمناسبة، لأن وقف الحصار ورفع الإجراءات الأحادية العدوانية مع توقف السطو على موارد الدولة السورية النفطية والزراعية، كل تلك الأمور هي العناوين الأهم في عودة الدولة مؤسساتا وشعبا لقدراتها الطبيعية على مواجهة الظروف المختلفة بما فيها الكوارث، فليس المطلوب هنا تحويل سوريا لبلد مسكين يتلقى الإحسان، ولكن أن تستعيد مكانتها كبلد طبيعي يواجه التحديات بمقدراته هو مضافا إليها ذلك الدعم الدولي المستحق.
هنا برزت لدينا في الأيام الأخيرة حملات مستهجنة لنشر شائعات حول “سرقة المساعدات” على صفحات التواصل الاجتماعي (عصب صناعة الرأي) وفي بعض الإعلام العالمي الذي ما فتئ يعمل على تشويه سوريا كبلد وكمؤسسات منذ 12 عاما، ولا يغفل أي سوري موضوعي عن أن أهم محاور وآليات إشعال الحرب في سوريا كانت الحملات الإعلامية المكثفة والمسعورة. إن التجاوزات والأخطاء والسرقات في إدارة عمليات الإغاثة وتوزيع الدعم على ضحايا الكارثة هي أمر ثابت لا يمكن إنكاره، ولكنه في التعاطي مع هذا الملف يجب مراعاة أمرين:
– هذه الملاحظات لا تشكل الحالة العامة والكلية للمشهد السوري، وإن ادعاء غير ذلك هو ما يشكل سرقة للمجهود الجبار الذي بذله السوريون ومئات المنظمات والجهات الخيرية والداعمة، ومؤسسات الدولة التي رعت ونظمت كل ذلك، واستمرت في أداء قسم لا بأس به من واجباتها وأدوارها برغم الظروف القاهرة التي مرت عليها كمؤسسات وكأفراد يعملون فيها، وهم المواطنون السوريون المرهقون بالأزمة والذين ظلوا مستمرين في عملهم ضمن القطاع العام في الصحة والكهرباء والتعدين والتعليم والإدارة المحلية..الخ.
– ما هي المصلحة السورية من وراء تصدير صورة مشوهة إلى العالم عن الدولة والمجتمع السوريين.!
إن ملايين السوريين عاشوا وتمكنوا من عبور الأزمة بناء على الدور الذي لعبته مؤسسات كثيرة حكومية وغير حكومية، على صعيد الصحة والإغاثة ودعم التعافي واستعادة الدور. إن مؤسسات اجتماعية رائدة مثل (الهلال الأحمر العربي السوري) الذي أعال ملايين الأسر السورية خلال الحرب وفي كل المحافظات السورية، وشغل ألوف الشباب من الجامعيين والخريجين ومنحهم فرص مستمرة للتدريب والتأهيل، و (مكتب الإغاثة في دير القديس بطرس بوادي النضارة) في وسط سوريا الذي قدم خلال سنوات الحرب تغطية كاملة لآلاف العمليات الجراحية للمواطنين من مختلف المحافظات الذين نزحوا باتجاه منطقته، وكانت معايير الاستجابة لديه من الأعلى إضافة لدعمه لآلاف المواطنين بالأدوية والمواد الغذائية، وجمعية مثل (صندوق العافية الخيري – حمص) والتي قدمت بالأرقام أكثر من 270 ألف حالة صحية وعملية جراحية بتكلفة وصلت رقم 6 مليار ليرة سورية، وأنشأت مشفى خاصا بعمليات القلب بأعلى المعايير ومركزا للتصوير مركزا لغسيل الكلى المجاني للمرضى في حمص، لا يمكن أن يتم جزاؤها كلها بالإنكار والاتهامات الخبيثة.
إن تلك الجهات التي ذكرتها هنا كأمثلة تعبر عن المجتمع السوري ولا تختصره، فهو يغص بالأمثلة، لا بل إن الهَبَّة الكبيرة التي شهدتها الساحة السورية خلال الأيام العصيبة إبان الزلزال، والتي عبرت عنها بحماسة وغيرية كبيرة كل من مؤسسات الدولة والجيش والدفاع المدني مع المؤسسات العامة والخاصة والجمعيات والفرق التطوعية التي اندفعت جميعها مع ملايين المواطنين لتلبية الاحتياجات والاستجابة الفورية للكارثة، لا يمكن أن يُرَد عليها بالخذلان والاتهامات الكاذبة، خاصة تلك الرخيصة التي تستهدف الدولة والمجتمع السوريين، ومن خلفية سياسية واضحة تحاول مجددا الانقضاض عليهما وكأن 12 عاما من المحاولات لم تشفِ غليلهم ولم تنهِ حساباتهم معهما بعد. هذه المحاولات واضحة بمرجعيتها الخارجية التي ما لبثت تصنع الأخبار أو توجهها بشكل ممنهج لتشويه صورة الدولة والمجتمع ولإضعاف دورهما خلال العقد المنصرم، ولقد حققت نجاحات غير قليلة في سبيلها لذلك متسلحة بالكثير من الأخطاء والتخبط الذي اعترى الحياة العامة والخاصة السوريين، فلقد برزت فئة من السوريين في الداخل بدا عليها خلال الأيام الأولى للزلزال وكأنها كانت تنتظر الفرصة للانقضاض على الدولة السورية مواربة ومستخدمة ألم الكارثة، هذه الفئة ولأن الكثيرون منها هم وطنيون يمكنني أن أنبه إلى أنهم شريحة غير مكترثة بالسؤال المصيري هنا..
خلال العقد الأسود المنصرم.. هل أنتج المزيد من الهجوم على الدولة السورية وإضعافها، إلا مزيدا من المعاناة لمواطينها!!!
إقرأ أيضاً .. المواجهة الأطلسية الروسية .. هل تنتهي بزوال الاتحاد الأوروبي؟.
إقرأ أيضاً .. سوريا والحلفاء .. معادلات الجوع والعوز ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحاتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter