العطّارون .. غسان أديب المعلم

لن يصلح العطّار – العطّارون – ما أفسده الدهر، ولن تجري الرياح كما تشتهي السفن، ولن يصل العُلا من لم يطلب ويعمل ويسهر على الوصول إليه، والكثير غيرها من الأمثال التي بُنيت على التجارب وتكرارها لتُصبح نظرية مُحكمة، ولست في وارد رفع المعنويات أو شحذ الهمم، ولا حتّى زيادة الإحباط أو تثبيت العزيمة، فكلّ محبّ ومنتمي لهذا الوطن يعيش كما المريض المُنتظر للموت المُحتّم على الرمق الأخير.
أجزم من خلال ما أراه وألتمسه وأعيشه ضمن هذا الصخب والعصف المجنون أن الغالبيّة من الشعب فقدت الأمل بأيّ حلّ من قبل السلطات، وتقف بموقف المُتفرّج عند طرح أيّ نظرية أو فكرة من قبل أحد صفوفها ضمن الأحاديث الجانبيّة والحوارات الضيّقة بأنها نظرية خياليّة غير قابلة للتحقيق، وأنّ السلطات قد أغلقت كلّ المنافذ للعبور لأي ضفّة للنجاة دون أن يكون طوقها ومركبها حاضراً، فالسلطات عمدت على تهميش كلّ من يخالفها الرأي، وتحطيم كلّ من يسعى ولو بالإشارات الناعمة بتوجيه أصبع الاتهام للسلطات بأنّ نهجها خطأ وغير صحيح، ولذلك نعيش منذ عقود مع الخشب المُسنّدة من أشباه الرجال الذين يتعاقبون على مواقع الإدارة والمسؤولية والقيادة، فترى الخطابات والشعارات المُكرّرة المُنفصلة عن الواقع، والأفعال الساذجة التي لا يرتكبها سوى حمقى، وردّات الفعل التي لا تصدر سوى عن مُغفّلين، ويُضاف لكلّ هذا انعدام الضمير والفوقيّة وعُقد النقص عند أغلب الشخصيّات، وكأنّهم مصنوعين بواسطة قالبٍ واحد، لا انحراف فيه أو تكويرٍ أو تطوير.
وبذات الوقت تمّ نفي وتخوين وإرضاخ كلّ الفعاليّات الفرديّة القليلة وما بدر عنها من محاولات أو انفعالات وطرحٍ للحلول أو نشرٍ للوعي، بعد أن أحكمت السلطات قبضتها الأمنيّة ونظريّات الآيدولوجيا التي تفرضها، ليشاهد الجميع نتيجة المنفى أو الزجّ بالسجون أو إطلاق حملات التشويه وإلصاق تُهم الخيانة، ليتصدّر المشهد العيّنة الخشبيّة الأولى التي ذكرناها، وتليهم الفئة المُستفيدة من الفُتات، من أشباه المُثقّفين والمُفكّرين، والتي تنبري للدفاع لترسيخ أقدامهم ونظريّاتهم أكثر وأكثر، فتُصبح الغالبيّة حينها تحت وقع الخوف من التمرّد أو محاولات الحياد عن الطريق المرسوم من السلطات، وتكون النتيجة شعباً مغلوباً على أمره، يعرف الحقائق ولا يستطيع البوح بها، ولا مناص أو بدّ لديه سوى التغريبة الخارجيّة بالسفر، أو التغريبة الداخليّة بالصمت، وربّما التصفيق في بعض الحالات، وهذا هو الواقع دون تجريح أو تجميل، الواقع الذي رُسم بالمسطرة والبيكار الهندسيّ بأدقّ درجاته، عبر ما يُسمّى بِ “بروتوكولات حكماء صهيون” أو رغبات أعداء البلاد من الدول والكيانات المُحيطة، وقد يكون ضمن ما تقرّره غرفة الظلام والظُلمات العميقة العالميّة التي نسمع بها ونلتمس وجودها من خلال تكرار شواهد التاريخ التي اضمحلّت به الدول وتفكّكت وانهارت رغم وضوح الرؤيا وكمّ الحلول والخطط المؤدّية للإنقاذ أو الثبات..
فالتجربة العراقيّة ليست ببعيدة، وسبق أن تحدّث الكثير عن تشابه الظروف والأفعال وصولاً للنتائج، وأنّ مامرّ به الجزء الثاني من “سوراقيا” هو نسخة طبق الأصل عمّا يجري الآن في المكوّن الأول سوريا..
فبداية التمرّد كانت جنوباً، وحدث الانفصال الكُردي شمالاً، وتمّ تسليم الأسلحة الكيماويّة تحت الشروط الدوليّة رغم تواجد ذات الحلفاء، وتمّ قصف المفاعلات النووّية في كلا البلدين وخروجهما عن الخدمة، وتمّ تطبيق الحصار الظالم الخانق على الشعبين مع اختلاف التسميات بين “قيصر” و “النفط مقابل الغذاء”، وحدثت ذات الظروف الداخليّة باستحضار المظلوميّة وترويج المعركة على أنها أمّ المعارك، وهي كذلك بالنسبة للشعوب قبل معرفة العدوّ الداخليّ وهو السلطات ذاتها التي لم تقدّر صمود وتضحيات هذه الشعوب لأجل أوطانها، وتبجّحت كافّة وجوهها – أي السلطات – وتلطّت خلف الشعارات وترديد عبارات الصمود والانتصار والمطالبة بالمزيد من الثبات حتى للموتى.
كانت النتيجة التفكيك والشرذمة للجزء الشرقيّ من سوراقيا مع فرض دستور بريمر الطائفي، وبقي الدور على الجزء الغربي الذي يعاني مايُعانيه من ذات الحقبة، من مسؤولين لا يعرفون معنى الوجع والألم الذي أصاب هذه الشعوب الجبّارة، ولا يكلّفون أنفسهم اجتراح الحلول، أو حتى مدّ يد الحوار للمكوّن الحقيقيّ للدولة وهو الشعب، وهو سبب بقاءهم ووجودهم في مناصبهم حتى اللحظة، وستكون النتيجة المرسومة بالانهيار والخراب والدمار لا مُحال باستدامة هذا التعالي والغرور.
وعلى المقلب الآخر، وضمن سياق التاريخ وأحداثه أيضاً، فقد سبق وأنّ تعرضت بلدانٌ برمّتها للانهيار الكامل عن بكرة أبيها، لكنّ مخزون الإرث من الحضارة والانتماء لها، وكذلك ارتفاع درجات الوعي الذي تكفّلت بتعليمه وارتفاع منسوبه أحداث الحروب، كانت سبباً بالبناء والارتقاء، وأيضاً أمثلة ألمانيا واليابان وإيطاليا ليست ببعيدة..
هذه الدول الثلاث انهارت تماماً وأعلنت الاستسلام، لكن شعوبها نهضت من تحت الركام، ووصلت لمصاف الدول المُتقدّمة بكلّ النواحي، وتربّعت على عرش صدارة الاقتصاد والصناعة والإنتاج العالمي والعلمي، وأثبتت بأنّ الشعوب التي تمتلك الإرث الحضاريّ والإرادة والوعي قادرة على النهوض والمضيّ قٌدماً نحو المجد، وبعيداً عن مليارات “مارشال” التي حظيت بها ألمانيا..
من كان يجرؤ على قول كلمة لا أمام “هتلر”؟.
من كان يجرؤ على عدم التصفيق في خطاب موسوليني؟.
ومن كان يحلم بأنّ هذه الدول ستعيش دونهما؟.
مضت الأيام ونهضت الشعوب بسرعة قياسيّة رغم أنّ العالم بأسره لاحق واعتقل العقول والعلماء الألمان، أمّا المسؤولين برمّتهم فقد حوتهم مكبّات قمامة التاريخ وعاشت بلادهم.
وأخيراً، ومن جهتي، وكرأيّ شخصيّ أراه رأياً عامّاً كغيري ممّن فقد الثقة بهذه السلطات، أرى أن تعود هذه السلطات لرشدها وتقرأ العبرات وتعتبر من التاريخ وتهرع إلى الحوار الحقيقيّ لإنجاز مشروع وطنيّ جامع دون إقصاء أحد، وتعود إلى حض المكوّن الرئيس للدولة لأنه الحامل الوحيد لا غير، ولأنّه مازال حتى اللحظة ينتظر المبادرة والالتفاتة لأجل الوطن بالعموم، وما هذه المناشدات والدعوات التي نقرأها أو نسمعها إلّا خير دليل على فقدان هذه الثقة، لكنني مازلت أجزم غير حالمٍ بالوعيّ الشعبيّ والإرث المكنون في شخصيّاتنا كسوريّين أصحاب الحضارة الأولى في هذا العالم، وبأنّ ثمّة ثورة وعي كامن في القلوب توقف الانهيار، أو نهضة بعد الخراب، وأن الرياح ستجري كما تشتهي سفن الشعب، وأنّ العقل السوريّ لن ينضب من الأفكار، وبقلب كلّ سوريّ رشّة عطر.
إقرأ أيضاً .. من الظلمات إلى النور ..
إقرأ أيضاً .. نيرون وديوجين ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب