العدوان على غزة 2022 .. هزائم على جدران البطولة .. يزيد جرجوس ..

العدوان على غزة 2022 .. هزائم على جدران البطولة ..
إن التعاطي مع هذا النوع من المسائل التي تحتل موقعا متقدما في الضمير العربي ليس فقط بسبب تموضع فلسطين هناك، ولكن كونها تعني مستقبلنا جميعا، يحتم علينا أن نقترب منها بصدق وبشفافية، إذ أن الديبلوماسية والمواربة في قضايا الوجود تنتج انحرافات لا يمكن إصلاحها مع الزمن، فتكون وحدها كفيلة بإعادة انناج الهزيمة تلو الأخرى على طريق تفكك واضمحلال العالم العربي، بسبب التصدعات التي تضرب كيانه يوما بعد يوم من خلال الصراع العربي الإسرائيلي. لذلك سنبحر في الملف ووقودنا رباطة الجأش والهدوء والسعي الحثيث لرسم صورة واقعية لا تَنشَغِلُ برفع المعنويات ولكن تسعى لتقديم فهم واقعي يُنَجي المستقبل بذخيرة الحاضر.
بدا اعتقال قوات الاحتلال لبسام السعدي أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية قبل أيام من الهجوم، وكأنه تهيئة له، حيث ادعت “إسرائيل” بعد ذلك أن “هناك هجوماً وشيكاً من الجنوب” ستقوم به الجهاد، وتم الترويج لذلك في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعليه بدأت هي بالاستفزاز ومن ثم الهجوم. هذه المعطيات ضرورية حتى ندرك أن ما حدث بالمجمل لم يكن خياراً فلسطينياً لكنه قرار إسرائيلي سنحاول المرور على حيثياته ونتائجه أكثر من خلال بحثنا هذا. فنحن مطالبون تجاه الحقيقة التاريخية وتجاه مصالحنا القومية بعدم إغفال الحقائق، لا بل ودراستها لاستنباط الاستراتيجيات القادمة لمواجهة أكثر فاعلية.
بعض التفاصيل من العدوان كمعطيات ..
– بلغت الخسائر البشرية من الجانب الفلسطيني 48 شهيدا من بينهم 16 طفلا، ونحو 360 جريح وكل ذلك حسب “وزارة الصحة في غزة”، بينما كان من ضمن الشهداء القياديين في سرايا القدس (تيسير الجعبري) قائد المنطقة الشماليّة، و(خالد منصور) قائد المنطقة الجنوبيّة. في حين لم تصدر أي معلومات عن خسائر بشرية لدى الكيان، ناهيكم عن الخسائر المادية التي أيضا كانت بفوارق كبيرة تجعل منها خسائر من طرف واحد.
– في هذا العدوان الإسرائيلي انتقل الكيان فيه وفق سلسلة خطوات منظمة ربما بدأها منذ عام1948 في تفتيت الجبهات، من قتال العرب، إلى قتال دول المواجهة، ثم إلى قتال مصر وسوريا، ثم لبنان منفرداً، وصولاً إلى كل من الضفة وغزة على انفراد، واليوم يصل إلى ما سماه هو “استهداف لمواقع حركة الجهاد في قطاع غزة”، فالإسرائيلي لم يعد بحسب زعمه يقاتل الفلسطينيين ولا حتى فلسطينيي غزة، ولكنه يقاتل فصيلاً منهم!!
– اعتدنا مع كل عدوان اسرائيلي على شعبنا أن نشاهد “وساطة” عربية، طبعا هذه الوساطة لا تكون من الدول صاحبة الموقف الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني والتي يمكنها أن تقف بوضعية الند للند في أي مفواضات، ولكن من أنظمة الحكم العربية الوظيفية التي تعمل بالتوافق مع المخطط الصهيوني في المنطقة، والتي تنضوي فيه بشكل علني وواضح. “وساطة” بين السكين والجرح ينتج عنها وقف للطعن دون أن تكلف نفسها عناء تطبيب الجرح فيستمر النزيف.. لا بل ما هو أخطر!
– تلميع دور تلك الأنظمة العربية التابعة في السياسة للمحور الأميركي، وإظهارها بصورة “الحريص والداعم للحق الفلسطيني”.
– اضطرار الشرفاء من المقاومين كمنظمات بذلت الغالي والرخيص في سبيل القضية المركزية، لتقديم الشكر والامتنان للأنظمة العربية التي أهدرت تلك القضية وأساءت لها كثيراً.
– تكريس عزل سوريا والاستمرار في تجاهل دورها المحوري في دعم وتشكيل المنظمات المقاومة في كل من فلسطين ولبنان، وتبنيها لسياسات عربية تحمي نهج المقاومة وتسعى لترسيخه كمفهوم عام في الإقليم لمواجهة مفاهيم التطبيع و”الاعتدال العربي”.
– عدم إحراز أي تغيير في قواعد اللعبة عقب جولة حامية من القتال .. وهذا أهم ما في الأمر. فلم يتم فتح معبر واحد أو وضع أي ترتيب جديد فيما يخص علاقة قطاع غزة مع الضفة أو العالم الخارجي عموما، فبقي الحصار مطبقاً على القطاع لا بل سيتخذ العدو من المواجهة ذريعة للمزيد من التضييق على الفلسطينيين هناك.
– عدم إحراز أي تغيير في موضوع التنسيق الأمني بين شرطة وأجهزة السلطة الفلسطينية وبين أجهزة العدو، حيث يتأمل المواطن العربي وقف ذلك التنسيق أو تخفيفه على أقل احتمال.
إن الخسائر البشرية لدى طرفي النزاع لم تكن يوماً مقياساً لسير المعارك، فكل الحروب التي خاضتها الشعوب المستضعفة مع المحتلين والغزاة كان ميزان الخسائر البشرية فيها لصالح المعتدي و”الأقوى”، وأمثلة ذلك كثيرة نذكر منها (فييتنام/الولايات المتحدة) حيث كانت خسائر الفييتناميين نحو 3 ملايين إنسان مقابل 50 ألف أميركي (الأرقام المعلنة)، وحتى في مقاييس الحروب العظمى فإن خسائر الاتحاد السوفييتي البشرية في الحرب العالمية الثانية ناهزت 30 مليون ضحية كرقم فاق مجموع خسائر كل الأطراف الثانية في تلك الحرب، ولكن الاتحاد السوفييتي كان المنتصر الميداني الأكبر فيها، فجيوشه هي التي حسمت المعارك في غرب أوراسيا وفي شرقها أيضا.
ولكن ذلك كله لا يمنعنا من النظر بأسف إلى الخسائر البشرية الكبيرة التي يتعرض لها الفلسطينيون في كل مواجهة مع العدو، خاصة وأنها بموازين المواجهة الصلفة، تحدث بدون مقابل لا بل مع خسارة للقياديين من طرف واحد، الأمر الذي يخرجها من موقعها “المقبول” في سياق حروب الدفاع عن الوجود والمصير.
إن قدرة الكيان العدو على تفتيت الساحة النضالية للشعب العربي لدرجة صار بإمكانه تناول مبضع جراحة واستخدامه لاستهداف فصيل معين من الشعب الفلسطيني، لا بل وأحيانا “الذراع العسكري” لذلك الفصيل، فيما يقف بقية أبناء الشعب تقريبا موقف المتفرج، ويكتفون بالإدانات والتهديد والوعيد، في قلب نفس الحي والشارع، لا يمكن المرور عليها واعتبارها من علائم “انكسار العدو”، لا بل إنها من وصمات انكسارنا نحن، ومن الأمور العاجلة التي يجب الوقوف أمامها بجدية كبيرة.
أيضاً، فإن إعطاء “دور” لأنظمة الحكم العربية المُطبِّعة، والتابعة في كثير من الأحيان للعدو، يتم إظهارها فيه وكأنها “الحريص والمدافع” عن حقوق الشعب العربي وقضيته المركزية، وعلى حساب تغييب وإقصاء القوى والحكومات العربية الفاعلة حقيقة في صناعة المشهد المقاوم مثل سوريا والمقاومة اللبنانية، وحتى الدول العربية التي تدعم بالموقف على الأقل كالجزائر مثلاً، تبدو خارج الصورة تماماً، بينما تتقدم حكومات مثل الأردنية والمصرية والتي تمور أفئدة شعوبها بالضغط من كثرة تبعية سياساتها للمحور الأميركي، لتلعب دور “الوسيط المنقذ”، يشكل هزيمة معنوية كبيرة على مستوى العالم العربي، خاصة عند الجزء الأهم من الصورة هنا، وهو اضطرار المقاومين في فلسطين لإعطاء “شهادة حسن السلوك والقومية” للأطراف العربية الموغلة في التآمر عليهم وحصارهم، عبر تقديم الشكر لها والامتنان.
عندما تنتهي كل جولة من القتال بين العدو والمقاومين دون إحراز أي تغيير في قواعد الاشتباك والتعامل أو الاعتراف، ودون فتح معبر واحد لفك الحصار عن غزة، ودون اتخاذ أي خطوة فلسطينية حتى لتقييد أو وقف التنسيق الأمني مع العدو، لا يمكننا اعتبار ذلك إلا هزيمة أخرى على أكتاف المقاومين الذين يبذلون أرواحهم ومستقبل عائلاتهم في سبيل فلسطين، ثم لا تتم الإفادة من كل ذلك بقيد أنملة.
في المقابل ..
إن ارتفاع معدلات العمليات المقاومة البطولية للشباب الفلسطيني وحده يجعل من جولة القتال ثمناً مستحقاً للدفع في كل مرة، للإبقاء على جذوة النضال مستعرة في قلوب وسلوك الشعب المظلوم، كما أنه لايمكن بحالٍ من الأحوال عدم رصد التطور النوعي في السلاح المستخدم من قبل المقاومين في فلسطين. هذا الحديث عن السلاح يصح ليكون نافذة لإطلالة مقارنة على تجربة عربية أخرى ليست بالبعيدة لا جغرافياً ولا زمنياً، وهي تجربة المقاومة اللبنانية يتقدمها (حزب الله).. حيث كان التطور النوعي للتسليح أكثر وضوحاً من حيث الترسانة الصاروخية والمميزات الفنية والتعبوية لتلك الترسانة، ما أدى فعلاً لإرساء “توازن الرعب” الذي يتم الحديث عنه هنا كواقع، فالخسائر الإسرائيلية في حرب 2006 بلغت بحسب الأرقام المعترف بها من قبل حكومة الكيان “45 مدنيا، و120 عسكريا” هذا إضافة إلى خسائر مادية كبيرة جداً حيث تم إستهدف سفينة ساعر الحربية وتدمير عشرات المدرعات والدبابات إضافة إلى تضرر ما يقارب 6000 منزل طالتهم الصواريخ. هذه الأرقام تجعل من الاعتداء أمراً يحسب له العدو ألف حساب لأنه سيتحول إلى مواجهة وليس حرباً من طرف واحد.
إذاً.. فإن قراءة هذه المعطيات بصورة مُحبِطة هي أمرٌ واردٌ ولا يحتاج أصلاً لهذا الجهد، ولكنها بالنسبة لكاتب هذا المقال تعتبر إضاءة استنهاضية، تهدف للقول بأن شيئا ما يجب أن يتم تغييره في معادلات الصراع العربي الإسرائيلي، وأنه طالما أن صيغة الاعتداء من طرف واحد سقطت مراراً على سواعد الشباب العربي من تشرين 1973 إلى تموز 2006، (بلغت الخسائر البشرية للكيان في 1973 أكثر من 8 آلاف شخص) فإنه بالإمكان إسقاطها مجدداً وربما بصورة نهائية، أما تدبيج المقالات المُجامِلة عما حدث، ومحاولة إظهاره بمظهر أكبر من حقيقته لصالح القضية الفلسطينية، فإنه يحمل في طياته مخاطر التخدير وزراعة الوهم، وهذا أمر في غاية الخطورة على مستقبل هذه القضية المركزية جدا، والتي يحتاج المقاومون فيها أكثر ما يحتاجون إلى كلمة صادقة وفعل إيجابي.
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب