إضاءاتالعناوين الرئيسية

العالم الرَّقمي يستبيح كلّ شيء .. ثناء أحمد

 

العالم الرَّقمي يستبيح كلّ شيء  (فنُّ الرِّسالةِ نموذجاً)

يَبدُو أنَّ العالم الرَّقمي يستبيح كلّ شيء فِي واقعِنا، ويَتركُ بصماتِه على أشياءَ كانَت تُعتبرُ من جمالياتِ أرواحِنا، وها هُو يُزيحُ أو يُدمرُ فَناً أَدبياً كانَ لهُ وقع خاص في نُفوسِ كَاتبِيهِ وَقارئيهِ على حدِّ سَواء إنَّهُ (فنُّ الرَّسَائل)
ذَلكَ الفَنُّ الذي يَتحدثُ بلسَانِ الغَائبِ، ومِن عَالمِهِ النَّثريٌّ تَظهرُ مَقدرةَ الكَاتبِ، ومَوهبتَهُ الكتابيةِ، وروعةَ أساليبهِ البَيانيةِ القويةِ، لتترجمَ الوجدانَ، وتنوبَ في قضاءِ الحَاجاتِ، وتصنعَ رباطَ الوِدادِ بينَ البَشرِ.
فهو بمَثابةِ خطابٍ يوّجهُ للغيرِ لذلكَ نرى البَعضُ يربطُ بينَه وبينَ الخِطابةِ، ويُعتبر مع الخطابةِ من المُقوماتِ الأوّلى والأساسيةِ لكلِّ الأنواعِ النَّثريةِ.
العالم الرَّقمي يستبيح
والسُّؤالُ هل الرّسالةُ كفنٍّ أدبي مازالتْ تُحافظُ على قيمتِها الفنيةِ حتّى وقتَنا الحَالي ؟!!
لم يَكن التّطورُ الرّقمي فَألاً حَسناً للرِّسالةِ بل انعكسَ عليها سَلباً عَليها.
ثُمّ إنَّ وسائلَ التَّواصلِ الإجتماعِي والبَريدِ الكترونِي سَاعدَا باستبعادِ فنياتِها، وتَدنِي لغتِها وإهمالِ الأُسلوبِ لصَالحِ المَضمون. فالعَالمُ الإلكتروني غَدا بمتناولِ الجَميعِ ممن قد لا يملكُ مُقوماتِ الثَّقافةِ والمعرفةِ العَميقين، لذا لاغرابة!!!
ولعلّهُ من المُحزنِ أن يكونَ التَّطورُ التِّقني الرَّقمي في مُجتمعاتنا سَبباً ليسَ في تَراجعِ فَنِّ الرِّسالةِ التي عُرفت بعراقتِها فحسب، وإنمَّا سَبباً أيضاً بتراجعِ اللغةِ العربيةِ الأم، فغدا خَطَؤهم صَواباً، واختلطَ الفَصيحُ بالمُتداولِ العَامي.
العالم الرَّقمي يستبيح
فأينَ نحنُ من رَسائل عبد الحَميد الكَاتب في العَصرِ الأموي، ومن رَسائل التّدوير و التّربيع للجَاحظ، ومن رَسائل الصَّحابةِ ورَسالةِ الدُّرة اليَتيمَة لابنِ المُقفَع، ورسائلُ إخوانِ الصَّفا.
أينَ نحنُ من رسائل ابن شَهيدٍ الأندلسِي والرَّسائل الهَزليةِ لابنِ زيدون وسواها لولادة بنت المستكفي ؟!!.
أينَ نحنُ من الرَّسائل التي
مُزجت بكثيرٍ من جَزالةِ باللفظِ وقوةِ بالمعنى، وبُعدِ الخيالِ مع الأسلوبِ البَلاغِي الحَصيفِ، باعتمادٍ على الطَّابعِ القِصصِي، وشواهدٍ من القرآنِ الكريم والأشعارِ المعروفةِ.
أينَ نحنُ من رسائل جبران ومي زِيادة، ومي والعَقاد وأحمد لُطفي السيد، وغسان كنفاني وغادة السمان، ورَسائل مَحمود درويش وسميح القَاسم، عن الحُبِّ والمنفى والوطن، وكذلكَ رسائلُ أعضاءِ مجلةِ شِعر يُوسف الخال وأدونيس والسَّياب، وكُثر غيرهم، مما لا تقلُّ أهميةً وقيمةً عمن سَبقها تَاريخياً وأدبياً.
أينَ نحنُ من أؤلئكَ الذين حملُوا أفكارَهم ومعتقداتِهم ومشاعرَهم على جَناحِ الحَمامِ الزَّاجل وسَاعي البَريدِ بمَظروفٍ مُعطرٍ ووردةٍ مجففةٍ، أينَ نَحنُ منهما بعدَ أن تقاعدَا وألقيَا بمهمتِهم للوحةِ مفاتيحٍ فصَلت فنَّ الرِّسالةِ عن ماضِيه، وربّما أودَتهُ في بَعضِ أنواعهِ لحدِّ الانقراضِ.
العالم الرَّقمي يستبيح
وَهنا لا أنوي البُكاءَ على ماضٍ اعتقدَهُ البعضُ اندثرَ، وإنّما هو تَقليبُ صفحاتٍ أردتُ منها المُمايزةَ بين قديمِ هذا الفَنِّ وحَديثهِ، وتوضيحَ انعكاساتِ الحَداثةِ على الآدابِ مِن خلالِ نموذجِ فنِّ الرِّسالةِ.
فنحنُ في زمنِنا الحَالي، لم يبقَ لنا ما يُشبهُ فنِّ المُراسلةِ، وإنَّما ما بَقي هو امتدادٌ مخالفٌ تماماً، بالأدواتِ والطَّريقةِ والمَضمونِ و الأُسلوبِ.
وإن كانَ بإمكانِنا أن نَستثني فإننا نستثني الرَّسائلَ الدِّيوانيةِ أو الرَّسمية التي ما زالت موجودةً بمؤسساتِنا، لكونِها وثيقة رسمية تضمنُ الحقوقَ بعيداً عن خدعةِ الوَسائلِ الحديثةِ في العَالمِ الرَّقمي، ولا ننكرُ اعتمادَ هذه المؤسساتِ على العالمِ التّقنِي في إداراتِها سواءً ما عُرفَ بالإيمِيل أو الفَاكس أو وَسائل أُخرى تُساهمُ بتَسريعِ حركةِ العملِ، هذا دونَ الاستغناءِ النّهائي عنها.
فالرَّسائلُ بغالبيةِ أنواعِها مازالت، ولكن تبدّلت أدواتُها و تحوّلَ مسيرُها عن الخطِّ المَعهودِ، لتَتجردَ من فنياتِها نَحو الغَاية.
و لا أظنُّ أن هذا الأدبَ سيعودُ إلى ما كانَ عليهِ، سِيما أنَّ الشِّعرَ بكلِّ أنواعهِ والنَّثرَ بتفاصيلهِ يُعتبرُ رسائلَ غيرَ مُحددةِ الجهةِ، جمهورُها شرائحٌ من هنا وهناك.
فلقد حَلّ التّغيير التّقني، فغيّب أنواعاً، وأبرزَ سواها أو بدّلَ مسارَها عن السَّابقِ، بما يُناسبُ العصرَ ومقتضياتِ الحالِ.
واليوم ليسَ من خيارٍ أمامَنا إلا الوقوفِ عندَ هذا المَنتوجِ باحترامٍ مرددينَ ما قالَهُ السَّياب:
لمَ تبخلينَ عليّ بالورقاتِ بالحِبرِ القَليلِ ..
وسَحبةِ القَلمِ الصَّموت
إنّي أذوبُ هَوىً أمُوت
وأحنُّ منكِ إلى رِسَالة.
.

*شاعرة وكاتبة- سوريا
.

لمتابعتنا على فيسوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى