رأي

الظلال !؟ .. د. نهلة عيسى

أعلم طلابي كل يوم, أن الظل هو انعكاسٌ لأصلٍ واقعي, ولكنه ليس الأصل, ثم أكتشف بالتجربة الموضوعية, وأيضاً كل يوم, أن الظلال باتت أصولاً, وأن الأصل بات ينسب للظل!؟ ولذلك لم يعد غريباً, أننا نسينا الحرب, وأصبحنا أسرى تبعاتها وتداعياتها, وتجارها وفجارها, والعاملين عليها, وظلالها, والمضحك المبكي أنه مطلوب منا السكوت لكي لا نزعج الظل!.

هل أروي لكم الحكاية من البداية؟ ولماذا وصلنا إلى هنا؟ القصة باختصار يا سادة: استيقظنا ذات صباح, أظنه الجمعة, لنجد أنفسنا سجناء حرب, حولت كل ما فينا وحولنا إلى رماد, وما تزال منذ أكثر من عشر سنوات تفاجأنا كل يوم بقبيحٍ جديد, وكان علينا أن نختار إما أن نموت كَمَداً وخوفاً في البيوت, أو نموت برصاصة أو شظية أو كذبة أو تطاول أو جوعٍ إن تجرأنا, واخترنا دون اتفاق مسبق .. الجرأة, وتابعنا العيش وكأن شيئاً لم يكن, رغم أن عيوننا كانت مليئة بالدم والبارود والدمع, لأننا بالعقل الباطن فهمنا أن هذه الحرب تستهدف تعرية جذورنا, فتحولنا إلى شجرة بلاستيكية, هي ليست حية, ولكنها تبدو للناظرين دائمة الخضرة, وكسبنا التحدي, ولهذا ليس مسموحاً لأحد أن يضع لنا علامات إرشادية عن الصمود بالصمت!, لأن صراخنا في وجه الدَّجل والخطأ, قمة الصمود, ومنتهى الإيمان بالوطن.

كما قلت لكم: الظلال تهيمن علينا, وتطالبنا برسم وجوه “سياحية” على وجوهنا لشد عضُد الوطن, ولهم نقول: وجوهنا مغسولة من الكذب بالدم الطاهر, وقهوتنا الصباحية لها طعم الجرح, ووجعنا المنشور على شاشات الدنيا, وكأنها أرصفة, لا يمكن إخفاؤه بالأقنعة, ولا يمكن إلغاؤه بنقله من المسرح إلى الكواليس, أو من غرفة المستشفى إلى المشرحة حفاظاً على نظافة بهو الاستقبال والممرات, فصوت الجرح عال, وصدقوا أو لا تصدقوا: الصراخ بديلٌ صحي عن الانفجار, وهو دفاعٌ مستميت عن الحياة, عن الأمل, عن صفاء وجه هذا الوطن الحزين, ووحده اليأسُ صامتٌ.

إلى من يهمه أمر الظلال: هل تظنون حقاً انتهاء الحرب!؟ دعوني أخبركم: أن الحرب الحقيقية بالكاد بدأت مع علو صوت الفُجَّار, والتُجَّار, ومقاولي الحرب, الذين تَسَيَّدوا مع الحصار, الشوارع والمَحَال وأماكن العمل وحتى البيوت بثقافة الحرب وأخلاقها, بغية تجويعنا, وجعل الشكوى صوتنا, وهي بالتأكيد .. أنكر الأصوات, ولكي لا تصبح الشكوى (النق) عنواننا, نصرخ, نشجب, نضع أصابعنا في عين النار ونكتوي, لكننا رغم أنف من يجوعوننا, ورغم الرُكَب التي يظنونها مكسورة .. لا نصمت.

لأننا مهما بذلنا من جهد “لعقلنة” ما يجري لحياتنا, ومهما حاولنا رسم استراتيجية له, أو خارطة طريق, أو جدول زمني, لا يمكن لأكثر المتعصبين لدعاوي “الصمت السياحي” عدم الاعتراف بأن فيما يجري ويدور لمسات جنون ساديَّة, رغم أن البديل عن ما يجري بنا الآن قد يكون أسوأ من حالنا الآن, لكن لا يمكن معالجة الحال بتكتيف المريض بقميص الجنون, وبالتسفيه وبالشيطنة, بل بالتشخيص الصحيح المبني على طرح الأسئلة, الصحيح والوجيه والجوهري والصريح من الأسئلة, ونحن من نحب هذا الوطن الجريح, بلا ادعاء, ولا طنطنة, كل ما نفعله أننا نرمي في وجوه من يريدون “تلبيسنا” قميص الجنون, بالأسئلة, فإن كان لديهم إجاباتٍ فليُطرِبوا بها مسامعنا, وإلا فليصمتوا, لأن أسئلتنا يريد الوطن عليها أجوبة, ولأننا بكل صدق, ونقاء الكون نستطيع القول: إذا كان الوطن رسالة, فهذا الشعب الموجوع, الصارخ, المتشبث بالسؤال, صاحب الرُكِب التي يظنونها مكسورة, هو عنوان الرسالة, والظلُّ يبقى ظلاً.

إقرأ أيضاً .. فوق كل فوق!؟ ..

إقرأ أيضاً .. إلا أنا !؟ ..

*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى