إضاءاتالعناوين الرئيسية

الشهرة، وحرب النجوم.. مراد داغوم

 

هل أنصف المستمع العربي الملحنين العرب أيام كثرتهم؟ وهل مفهوم (ملحن كبير) هو واحد عند الجميع، أم يختلف باختلاف المشارب؟ متى يقول المستمع العادي عن ملحن ما أنه “كبير”؟

يستمد المستمع معلوماته عن تقييم الموسيقي من الميديا، كالصحافة والإذاعات المسموعة والمرئية، وغالباً ما تكون معلومة كهذه غير مهمة بالنسبة له إلا إذا كان اسم الملحن هو الموضوع الرئيسي للمقال أو للمقابلة .. الخ. فهل يهتم المستمع العربي حقاً بصاحب اللحن أو العازف؟ هل يقوم ذهنياً بتصنيف أغنيات مطربيه المفضلين بحسب ملحنيها ليقيم مقارنة من نوع ما؟ على الأغلب هو لا يفعل لأن اهتمامه محصور بأمور أخرى.

لنتذكر معاً كيف اعتاد “عبد الحليم حافظ” في حفلاته وقبل غناء الأغنية أن يذكر اسم الملحن والشاعر وما تيسر له من أسماء أعضاء الفرقة الموسيقية، في التسجيلات الموجودة اليوم نجد أن الجمهور يصفق عند سماع اسم “عمر خورشيد” أكثر من اسم “بليغ حمدي”. في الحفلات، لم يكن “استئجار” جمهور التشجيع والتصفيق سلوكاً حصرياً للمطربين الذين اعتادوا أن يقيموا لهذا الجمهور “بروفات” خاصة لتدريبه على وقت التشجيع عند كلمة محددة في الأغنية أو في وقت محدد، بمن فيهم عبد الحليم ووردة الجزائرية وغيرهما. فاجتهد “عمر خورشيد أن تكون له حصة في هذا “الاستئجار”، وكان سخياً أكثر. يمكن لموسيقي بقدر متوسط من المعرفة أن يتأكد من أن مستوى عزف “خورشيد” على الغيتار لا يُعطى أكثر من 30%، ف”تخبيصاته” كانت واضحة وخصوصاً في صولو قصيدة “أغداً ألقاك” الذي يسبق الكوبليه الثالث، بالإضافة إلى اقتصار عزفه على براتيك بسيط لا يرقى لمستوى براتيك كبار العازفين على آلاتهم والموجودين معه على المسرح ذاته مثل أحمد الحفناوي أو غيره. لكن “سخاءَه” كان مقنعاً لدرجة أن “فايزة أحمد” أعطته مكان الصدارة المقابلة لوجودها على المسرح في تسجيل فيديو لأحدى أغنياتها اقتصر عليهما معاً، فقط. يُظهره بكامل أناقة العريس البرجوازي الذي يوزع الابتسامات يمنة ويسرة!

من المستغرب بعد ذلك أن نتساءل عن شهرة موسيقي إن كان عازفاً أو ملحناً، حيث أن المستمع لم يكن منصفاً لهؤلاء، بل ينساق وراء إيحاءات قد تكون مأجورة لتسويق فلان من الموسيقيين. أستعمل مصطلح “إنصاف” متعمداً الوصول إلى أسماء كبيرة لا يعرف المستمع العادي عن حجمها الحقيقي إلا النذر اليسير.
وقبل أن نسأل هذا السؤال نسأل: هل أنصف أهل الفن بعضهم قبل أن ينصفهم الجمهور؟ هذا سيقودنا إلى سلوك المشاهير منهم في هذا المجال، لأن المستمع سيستمد المعلومة منهم كما قلنا. فهل كان سلوك أولئك المشاهير مثل عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي طبيعياً مع زملائهم أم خاضعاً لاعتبارات أخرى لا تقل عن “حرب النجوم” شراسة؟

في التاريح الفني العربي أمثلة كثيرة تدل على ظلم أهل الفن بعضهم بعضاً، ما خلا المصالح التي لا تتضمن تعارضاً على مستوى المنافسة، فعلى سبيل المثال، أنصف الموسيقيون بالإجماع عازف الساكسفون “سمير سرور”، ولا سيما عبد الحليم حافظ الذي كان يبرز دور “سمير” أكثر من غيره في حفلاته ويناديه باسمه في منتصف دوره في عزف منفرد. لكن عبد الحليم ذاته كان في منتهى الأنانية مع زميله ورفيق عمره “كمال الطويل” عندما كان يُصر على تولي الإشراف على الفرقة الموسيقية في البروفات مما أشعر الطويل بالحرج وكان ذلك سبب قطيعة بينهما بعد عدد كبير من الأعمال المشتركة. بديهي أن يجتهد محترف الغناء لأن يطير اسمه في أجواء المستمعين العاديين، فشهرته هي ضرورة استمراريته. لكن الملحن يكتفي بشهرته بين المطربين وجهات الإنتاج. لأن المستمع العادي لم يعتد أن يبحث عن أو يحصل على أعمال ملحن ما، بل على ما غناه مطربه المفضل. فالمستمع العربي العادي لايحب الموسيقا بقدر محبته للغناء والرقص، وهذا ليس نقصاً على الصعيد الثقافي فثقافة الاستمتاع بالموسيقا الصرفة بدأت بالتراجع حتى على المستوى العالمي، بل هو الاستسهال الذي غزا أذواق الناس لأسباب متعددة. فالاستماع للموسيقا الكلاسيكية أو موسيقا الجاز مثلاً يحتاج لتركيز ذهني أكثر من الاستماع إلى البوب أو الشعبي، وهذا التركيز بات مفقوداً في عصر يعمل فيه الإنسان من الخامسة صباحاً وحتى الثامنة مساء في أحوال كثيرة.

أما ارتياد دور الأوبرا وحضور الحفلات الموسيقية فمحصور في نخبة اجتماعية، وقد يتعداها قليلاً في مدد لا تقل عن عدة شهور ليجد أحدهم نفسه متجهاً إلى شباك تذاكر حفل لأحد الموسيقيين الكبار الذين ندروا هم أيضاً هذه الأيام. برأيي المحايد، التأليف الموسيقي هو العمل الإبداعي الوحيد في الموسيقا، فما تبقى من فنونها هو تراكم للكم الذي بذله صاحبه لتطويع مقدرة أدائه. لذلك، تبدو المقارنة بين الملحنين الكبار عملية غير مجدية، إذا أن المفاضلة بين ملحنين أمثال عبد الوهاب والسنباطي والموجي والطويل وحمدي والأطرش ومراد ومكاوي وفوزي .. إلى آخر القائمة هي مفاضلة غير عادلة لا يقوم بها إلا إنسان شرقي اعتاد التعصب لرأيه أو لجماعته أو لذوقه الخاص.

لا معنى عند متذوق للموسيقا أن تسأله: من الأفضل موتزارت أو بيزيه؟ صيغة السؤال خاطئة في الأساس، فلكل منهما أسلوبه الذي يميزه ويبقيه مستوى غيره، والحديث طبعاً عن الكبار. أما غيرهم، فهم بالتأكيد يحتاجون لمشوار محدد إلى أن يستقر وجود أسمائهم في قائمة المراتب، إن تجاوزنا عن الفكرة الكامنة في هذا التصنيف “الشعبي”. وكما أسلفت، التاريخ الفني حافل بمواقف وحالات تُبدي مظاهر هذه الحرب قد لا يكفي عنوان المقال لاستعراض بعضها، لم تنته هذه الحرب حتى اليوم وإن خَفَتَ صوت ضجيجها قليلاً. ترى هل من علاقة بينها وبين لمعان أسماء محددة وبقاء أخرى في الظل؟

*مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا

-تابعونا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى