رأي

الشارة, إشارة!؟ .. د. نهلة عيسى ..

 

إشارة المرور, والضوء أحمر, أنا خلف مقود سيارتي أراقب البشر, أراقب العدم, فجأة على الرصيف يميني, صوت صراخ يخرس الضجيج, رجل في خريف الشباب ينتزع حقيبة يد لرجل أنيق مسن, ثم يضربه بها على وجهه, ويوالي الأدبار دونما تعجل كبير, ويتظاهر كل من في الشارع, بما فيهم شرطي المرور, بأنهم لم يسمعوا ولم يروا, لدرجة أني لثواني خلت نفسي في سينما “الحمراء” أتابع على الشاشة فيلم بوليوودي!!.

صديقتي في المقعد المحاذي, أصابها الوجوم, قلت لها: إنه الزحام, ولكن كأنه لا أحد, ثم تذكرت ذات الزحام قبل الحرب, حيث الشرطي رغم كل العوار هيبة, والمارون عزوة وظهراً, وسيفاً ضد الغدر, فعاتبت نفسي على السقوط في فخ تسطيح الأشياء, واختزالها في عبارات متناقضة, أبيض وأسود, مرعب وآمن, طيب وشرير, قبيح وجميل, والقضية أكبر من ذلك بكثير, إنها الحرب .. حيث لا مقدس, ولا حرمة, وحيث الفاجر والسارق والمارق سادة الرصيف والطريق, يروحون ويجيئون بين الناس جامعي اللقمة من الندرة, بصفاقة العارف أنه مهما فعل لن يحاسبه أحد, فالحق يحتاج إلى ساقين, وكل من في الشارع مُقعد!.

الضوء أخضر, والرجل المسروق على الرصيف يغالب البكاء, ويصيح: لا شيء فيها سوى الدواء, اشتريته بالمبلغ الفلاني منذ قليل, وأنا دموعي حصى, وعلى اللسان ما يشبه العتب: آه يا بلد, حتى الوجع فيك يسرق؟ فيرد علي الصدى, وكل شيء يتابع الهرولة بسرعة لا تخلو من الغطرسة في المدينة, وأضواء المرور تبدل شاراتها بسرعة الموت, فتزداد أنفاسي ضيقاً, وتنتابني رغبة بالهرب من سباق الفئران, فأبحث عن شيء أليف حنون أحدق فيه, فتداهمني لوحة إعلانية عن مطعم جديد في مدينة تلتهمني, وتبصقني كل مساء على سريري حطام بشر, فأصرخ: طوبى للجائعين فيك يا وطن!!.

أتابع طريقي, وأشعل سيجارة ساخرة من قوانين مكافحة التدخين, فرضها العالم “المتحضر” في زمن نحن فيه أعقاب سجائر في منفضة هذا العالم, عالم الكوكاكولا والنيون والبيتزا, والبلاستيك والسيليكون, والبشر يوقتون ايقاعهم اليومي وفق سعر الدولار, يهبط الدولار, وتبقى مشانق اللقمة في الرقبة معلقة مثل شجرة الميلاد, جميلة, بهية, مبهرجة, بغض النظر عن أن المسيح  في النهاية صُلب!!.

الطريق كابوس طويل, في كل شارع حاجز, يفتش في خصوصياتي, بيجامة وشبشب الطوارئ في حالة السفر على عجل, وكتب كثيرة, وحاسب مثل الجلد رفيق دائم في كل الدروب, وهوية الجامعة يسألني عنها ببرود: دكتورة؟ فأجيب: للأسف! فيرمقني بنظرة القادر, ويقول: أتسخرين؟ فأرد: بل أتوجع, يا حارس الطريق ليس ثمة ما هو أكثر غروراً وزيفاً من الفرح في زمن تشنق فيه جثة المقتول بحجة الأمن, والقاتل طليق, ندٌ, وجليس مفاوضات على طاولات العالم الكبير, والتلفاز ينهمر فيه الرصاص عبر الأخبار وكل المسلسلات, فهل من حاجز هناك!؟.

الطريق يطول ويطول, وكأنه لا صباح ولا مساء, عاجزة عن الاستمتاع اني على الأقل مثل “دون كيشوت”  أقاتل طواحين الهواء الوهمية, ولست في خطر, سوى خطر الطريق, فالسيارات بحر, والسائقين قراصنة, وأخلاق الحرب سلطانة, الكل في سيارته, زعيم, وبطل, وسيد مطاع, في مدينة الأحلام المكسورة, حيث يصادق المرء, أنياب كلاب السيارات تنبح, بأنك أقل, فأنقلع, فتنقلع, قبل أن يقلعوا منك الكرامة والروح!!.

الطريق دموع, والشارة إشارة إلى غد أكثر إخافة من الحرب, والهاتف يرن, وعلي أن أراجع الأسماء على الشاشة, رغم معرفتي أنها  طلبات تلاحق طلبات, ووحدها اسماء من أحب لا ترن, تتمدد مثل السيدة الجميلة على الشاطئ تغطس قدميها في قلبي, وترفع رأسها إلى أعلى العليين, في السماء أحبتي يراقبون, تراني بعد رحيلهم سأحذف الأرقام, وأظنهم يبتسمون أنني ما جرؤت, على وهم أنهم ربما في قادم الأيام سيتصلون, فأتأكد أن الحرب وهم, وأنني ربما قد هرمت, وغفوت في سينما “الحمراء”.

 

*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى