رأي

الدين – السلطة – الإبداع .. منشأ واحد لأدوار متشابهة .. يزيد جرجوس

تفرَّدَ الإنسان بتركيب دماغي خاص به لا يتواجد لدى الكائنات الحية الأخرى، حتى تلك التي تُصَنَّف مِن الحيوانات الأرقى كالثدييات، هذا التركيب أو الجزء من الدماغ هو “القشرة الدماغية الحديثة”، والتي نشأت لدى الإنسان القديم خلال مراحل طويلة من التطور، سأمر على شرح مبسط لأقوى النظريات التي تشرح التصور العلمي لها، وصولاً إلى ربط تلك النشأة وأسبابها التطورية لما أذهب إليه من تشابه بين عناوين الدين والسلطة والإبداع من خلالها، كدوافع وكتوجهات في اللاوعي الاجتماعي.

كان الإنسان القديم في مراحل “جمع الثمار والصيد” يعيش في متحدات بشرية متفرقة، تشبه تشكُّل عائلة بعض الثدييات كما نعرفها اليوم، مثل عائلة الأسود أو الذئاب مثلاً، حيث يتكون التجمع من ذكور وإناث تتوازع الأدوار فيما بينها بطريقة منظمة، فبينما تكون مسؤولية الذكور عند الأسود مثلا هي الحماية والمشاركة في الصيد، وتقوم الإناث برعاية الأشبال والمشاركة في الصيد، كانت مهام ذكور وإناث البشر تتوزع بطريقة مشابهة، حيث تقوم الذكور بالحماية والصيد، بينما توكل مهمة رعاية الأطفال وجمع الثمار إلى الإناث.

هناك مسألة أخرى مُحَدِّدَة ومهمة جداً تخص الإنسان وحده، وهي طول الفترة الزَّمنية التي يحتاجها وليدُهُ حتى يكبر ويتمكن من الاعتماد على نفسه في مسؤوليات الدفاع والصيد والحصول على الغذاء دون مساعدة من أحد، مقارنة ببقية الثدييات، فبينما ينمو شبل القطط مثلا خلال أشهر ليتمكن من تعلم الصيد كفرد بالغ جسمانياًَ، يحتاج وليد الإنسان لعدة سنوات حتى ينمو وتقوى بنيته الجسدية لكي يتمكن من الاعتماد على نفسه، هذه الظاهرة تشاركت مع مسؤولية رعاية الأطفال حديثي الولادة ومهام التقاط الطعام من جهة ثانية، في وضع إناث البشر اللواتي يبقين في مقر الإقامة لرعاية الأطفال أمام مسؤوليات غير منسجمة مع التركيب العضوي لعمل الدماغ البشري الذي يهدف للحفاظ على حياة الفرد نفسه عبر تأمين الغذاء والرعاية له ولذريته، وليس لذرية الآخرين، مما وضع ذلك الدماغ أمام الحاجة للتطور تلبية لهذه الحاجة وهي “العلاقة مع الآخر”، حيث أن كل مهمة من مهام الإنسان لها مركز خاص بها في دماغه، فللبصر فص بصري وللسمع الفص الصدغي وللحركات الإرادية الفص الجبهي.الخ.

يقول البرفيسور (سيرغي سافيلييف) وهو رئيس مختبر تطور الجهاز العصبي في الأكاديمية الروسية للعلوم: “بناء على الحاجة للعناية بالآخرين تطورت تلك القشرة الدماغية الأمامية كمركز مختص بهذه الحاجة والسلوك لدى النساء أولا، واللاتي أورثنها إلى أبنائهن الذكور مع الأجيال”.

ما حدث بعد ذلك أن الذكور وحسب البروفيسور سافيلييف وبما أنهم لم يكن منوطاً بهم مسؤولية التربية وإطعام الأطفال،  “فقد ذهبوا لاستخدام تلك القشرة الدماغية الحديثة في اتجاهات أخرى فبدؤوا يصنعون أدوات الصيد ويخترعون البارود ويقدمون الأشكال المختلفة من الإبداع”.

إذاً فإن مهمة تلك القشرة الدماغية نتجت أساساً كاستجابة لحاجة العلاقة التفاعلية مع الآخر، ومن هنا تحديداً يمكن فهم التجليات الأخرى للأدوار التي قامت بها عبر تطور المجتمع البشري، فالدين مثلاً والذي تطور من الطقوس التي جاءت كمحاولات بدائية للأفراد الذين يمتلكون إمكانات عقلية أكبر من أجل ابتكار سبل ما للحصول على دور في الجماعة، وذلك من خلال القيام بممارسات تهدف إلى تحقيق مصلحة الجماعة، وفي هذا أساساً محاولة لابتكار “سلطة” حيث أن المنافسة على السلطة والدور في الجماعة هي ما دفع هؤلاء الأفراد الأكثر ذكاءً لابتكار أساليب طقسية لمواجهة سلطة الأكثر قوة بدنية، في محاولة للاستحواذ على أدوارهم أو سلبهم بعضاً منها.

إذا تأملنا في الإبداع .. الفنون البصريَّة والأدبيَّة وكل ما من شأنه التعبير عن الإنسان بصورة تستحوذ على إعجاب الآخرين، لا بل وتتجاوز ذلك للتأثير بهم والارتقاء بوعيهم وذائقتهم في رسالة من المبدع كفرد يتوجه للجماعة، نجد أنه أيضاً صادرٌ عن نفس الآلية الدماغية للعلاقة مع الآخر.

لذلك فإنه ومن هذه الزوايا المنهجية للبحث المتعمق في مسألة تشكل الوعي والإدراك لدى الكائن البشري، والذي نتج عن القشرة الدماغية الحديثة، أنتج بدوره أنساقاً من السلوك الإنساني الذي تميَّزَ به البشر عن بقية الكائنات الحية كالتالي:

– الدين أولاً كمحاولة لتنظيم حياة الجماعة والارتقاء بها ووضع قيم أخلاقية معينة ناظمة لها، بغرض السيطرة وفق مفهوم معين.

– السلطة ثانياً كمحاولة لتنظيم الجماعة والتحكم بها، والسلطة هنا أقصد بها المؤسسة السلطوية ومنهج التفكير السلطوي، وليس سلطة الأفراد على أنفسهم وعلى الجماعة التي سبقت كل ذلك.

– الإبداع ثالثاً كرسالة أعمق في التعاطي مع الآخر يقوم بها الأفراد الذين لا يمتلكون المواصفات التي تمكنهم أو تدفعهم لسلوك المنحيين السابقين بشكل رئيس، ولكن تؤهلهم للقيام بنسق آخر من التأثير على الجماعة، يتعلق بالمنحى الشعوري.

 

إن هذه النظرة العلمية للموضوع، والتي استَرشَدَتْ بالحقائق والنظريات العلمية الأقوى في مجال نشأة وتطور الجهاز العصبي لدى الإنسان وخاصة دماغه، مع انعكاس ذلك على تشكل البنى السلوكية والاجتماعية لهذا الكائن المدهش بتركيبته وإمكاناته، قد تدفع البعض إلى فهم خاص به تتخذ فيه مسألة “المواجهة مع الديانات السماوية” أو مع فكرة وجود “الله” حيزاً من مناقشة هذه الأطروحة؛ وإن ذلك وإن كان حقاً مكفولاً للقارئ بأن يرى ويفكر ويعتقد، ولكنه لا يشمل كل أو بعض أهداف هذا الاجتهاد الذي يسعى لتقديم رؤية علمية وفق المعطيات العلمية المتوفرة، حيث أن العلم يَنظُر ويَبحث ويعتقد ثُمَّ يُثبِت اعتقادهُ فيصير معرفةً، أو يَنقُضُهُ فيصير نظرية سابقة، وضمن هذا المنهج للعلم يتقبل أهله بهدوء سقوط أطروحاتهم بالمزيد من البحث من جهة، ويتقبلون مبدأ أن يكون كل ذلك غير نهائي وغير أكيد كما أنَّه ليس بحال من الأحوال بديلاً عن منهج التفكير الماورائي الذي يعتقد بوجود “الله”؛ لا بل إنَّه لا يوجد مانع علمي من أن يكون “الإله” كقوة ماوراء طبيعية هو المسؤول عن الظواهر العلمية التي أنتجت كل تلك المعرفة والتطورات التاريخيَّة في حياة الإنسان والكون أيضاً.

 

إقرأ أيضاً .. “العقوبات” والمساعدات .. في ميزان واقعي ..

إقرأ أيضاً .. سوريا والحلفاء .. معادلات الجوع والعوز ..

كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحاتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى