الخلق والوجود عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي .. نجيب البكوشي ..

يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في كتابه شجرة الكون: «أقسم بعَليِّ عِزته و قَويِ قدرته لقد خلقني، و في بحار أُحديته غرَّقني، و في بيداء أَبديته حيّرني: تارة يَطْلِع من مطالع أبديته فيُنعشني، و تارة يُدنيني من مواقف قربه فيُؤنسني، و تارة يَحتجب بحجاب عزته فيُوحشني، و تارة يُناجيني بمناجاة لطفه فيُطربني، و تارة يُواصلني بكاسات حبه فيُسكرني. و كلما استعذبت من عربدة سكري قال لسان أُحديته: «لَنْ تَرانِي»، فذبت من هيبته فرقاً، و تمزقت من محبته قلقاً، و صُعقت عند تجلي عظمته كما خرّ موسى صعقاً. فلما أفقت من سَكرة وجدي به، قيل لي أيها العاشق: هذا جمال قد صُنَّاه، و حُسن قد حجبناه، فلا ينظره إلا حبيب قد اصطفيناه”
يُعتبر الخيال مفهوماً مركزياً في نظرية الوجود عند ابن عربي، فهو الوسيط بين الإنسان والمطلق، وعند ابن عربي، من لا يعرف منزلة الخيال، فهو خال من المعرفة.
حاول النسق الأكبري، مثل كل الأنساق الفكرية الكبرى، صياغة نظرية لأصل الخلق والوجود مستنداً إلى الخيال، أفلاطون مثلاً سيقسّم الوجود إلى عالمِ مُثلٍ وأفكارٍ ثابت، وإلى عالمٍ مادي محسوس ومتغيّر، وسيقدّم نظريته في الوجود أساساً في محاورة الطيماوس، أين تحدّث عن أسطورة قارّة الأطلنتس أو الأطلانتيد، وعن أسباب زوالها. تلميذه ارسطو من بعده، سيجعل من المحرك الأول الذي لا يتحرك، علّة الوجود، وسرّ مرور الأشياء من الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل. أمّا الفيلسوف أفلوطين، والذي سيكون له تأثير كبير على الفلاسفة المسلمين، وعلى أعلام التصوف وخاصة ابن عربي، فإنّه سيجعل من مبدأ الفيض عن العقل الأوّل أصل الوجود.
الكتب المقدّسة كذلك ستقدّم للمؤمنين بها أجوبة عن أصل الخلق والوجود، حيث نجد في أوّل سِفر من أسفار التوراة وهو سِفر التكوين قصص خلق الله للكون والإنسان، ونفس هذه القصص تقريبا سنجدها في النص القرآنى. علم الكون الفيزيائي الحديث بدوره ولسبر أغوار الوجود، سيقدّم فرضية الإنفجار العظيم لتفسير نشأة الكون.
الخيال الخصب لابن عربي مثل خيال أفلاطون وأرسطو وأفلوطين سينسج بدوره قصة خلق للوجود، وسيعتمد على مفهوم صاغه “المعتزلة”، وهو مفهوم “الأعيان الثابتة في العدم”. وصاغ المعتزلة هذا المفهوم عندما أرادوا تفسير كلمة “شيء” الواردة في الآية القرآنية القائلة: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فتساءلوا؛ كيف يمكن ان يُطلق اسم “شيء” على ما لم يوجد بعد أي على المعدوم؟ وللإجابة عن هذا السؤال، افترضوا وجوداً ما في حالة “العدم” يمكن ان يطلق عليه إسم شيء. يفتتح ابن عربي كتاب “الفتوحات المكية” بقوله التالي : “الحمد للهِ الذي أَوْجَدَ الأشياءَ عن عَدَمٍ وعَدَمَهُ، وأوقفَ وجودها على توجّهِ كَلِمِهِ، لنتحقّق بذلك من سرّ حُدوثها وقِدَمَها من قِدَمه…”.
الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي سيتميّز في تصوره للوجود عن ابن سينا و الفارابي والكندي، الذين تأثروا مثله بالفلسفة الإشراقية لأفلوطين، وقالوا بفكرة الفيض عن الواحد أو العقل الأوّل. فهو لا يرى مثلهم أن بنية الوجود هي خط مستقيم ينزل من الأعلى إلى الأسفل بل هي دائرة لها مركز ومحيط. ويمثل محيط الدائرة الموجودات الممكنة أو الممكنات، بينما يكون مركزُها هو الله، والله هوّ الإسم الجامع لكل الأسماء الإلهية التي لا تُحصى ولا تُعدّ. اذن الوجود عند ابن عربي هو دائرة مركزُها اسم “الله” ومنه تمتد خطوط متساوية لتتصل بنقطة من محيطها. النقطة التي تقع في مركز الدائرة تظل واحدة لا تتعدد في حين ان الأشعّة (جمع شُعاع) التي تخرج منها متعددة. وبذلك تظهر الكثرة عن الواحد دون ان يتكثّر هو بذاته.
من خلال تصوره الدائري للوجود سيجعل ابن عربي من صدور الكثرة عن الواحد أمرا ممكناً، وسيُسقط الزمن الخطّي الأفلوطيني ليعوّضه بالزمن الدائري وهو الزمن الإلهي في تقديره، والذي ترتبط فيه البداية بالنهاية فكل نقطة تقع على محيط دائرة الوجود يمكنها ان تكون نقطة بداية الدائرة كما يمكنها ان تكون نقطة نهاية الدائرة.
يقول ابن عربي في الفتوحات المكية في الجزء الأول:
“اعلم، أن العالم لما كان كُروى الشكل، لهذا حن الإنسان في نهايته إلى بدايته، فكان خرُوجُنا من العدم إلى الوجود به سبحانه وإليه نرجع، كما قال عز وجل: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، وقال: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وقال: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وقال وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الاَْمُور.
ألا تراك إذا بدأت وضع دائرة فإنك عندما تبتدئ بها لا تزال تديرها إلى أن تنتهي إلى أولها، وحينئذ تكون دائرة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكنا إذا خرجنا من عنده خطا مستقيما لم نرجع إليه، ولم يكن يصدق قوله، وهو الصادق: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. فكل أمر وكل موجود هو دائرة يعود إلى ما كان منه بدؤها، وأن الله تعالى قد عين لكل موجود مرتبة في علمه”. هذا التصوّر الدائري للوجود سينقذ الإنسان من العودة إلى العدم بعد الموت، وسيجعل من فكرتي البعث والحياة الآخرة كما وردت في الأديان أمرا ممكناً.
يُشير المفكّر المصري نصر حامد ابو زيد في كتابه “هكذا تكلم ابن عربي” إلى تميّز الفكر الأكبري ببنية دائرية مماثلة لبنية الوجود، وككل بنية دائرية ثمة مركز وثمة محيط، وأية نقطة على المحيط يمكن أن تكون هي نقطة البداية، وتكون في نفس الوقت هي نقطة النهاية. البناء الدائري للنص الأكبري هو في الحقيقة محاكاة للبناء الدائري للنص القرآني، وبنية النص القرآني هي مصدر الهام بنية النص الأكبري:
يقول ابن عربي متحدّثا عن النص القرآنى:
أنا القرآنُ و السبعُ المثاني
و رُوحُ الروحِ لا رُوحُ الأواني
فؤادي عند مَعلُومي مقيمٌ
يُناجيه و عِندكُم لساني
فلا تَنْظُرْ بِطَرْفِكَ نحو جسمي
وعَدِّ عن التَّنعُمِ بالمَغَاني
و غُصْ في بحرِ ذاتِ الذاتِ تُبْصِرِ
عَجَائِبَ ما تَبَدَّتْ للعِيان
و أسراراً تراءتْ مُبْهَمَاتٍ
مُسَتَّرةٌ بأرواحِ المعاني…
حول ظهور الممكنات ونشأة الكون من العدم يسرد ابن عربي قصّة من نسج خياله فيقول: أن الممكنات في حال العدم سألت الأسماء الإلهيّة سؤال حال ذلّة وافتقار، وقالت: “إن العدم قد أعمانا عن إدراك بعضنا بعضاً، وعن معرفة ما يجب لكم من الحق علينا، فلو أنكم أظهرتم أعيانناً وكسوتمونا حُلّة الوجود أنعتم علينا بذلك، وقمنا لكم بما ينبغي من الإجلال والتعظيم”، هذا السؤال دفع الأسماء الإلهيّة إلى الإجتماع بحضرة المسمّى (اللّه) وطلبت ظهور أحكامها لكي تتميز أعيانها بآثارها، في البداية طلبت الأسماء الإلهيّة من الإسم” “القادر” ان يُظهر الممكنات، فاعتذر لأنّه يحتاج إلى موافقة الإسم “المريد” لأنّه تحت إمرته، فتوجّهت إلى الإسم “المريد” فاعتذر بدوره و أرسلها إلى الإسم “العالم” الذي أحالها بدوره إلى الإسم الإلهي الجامع وهو “الله” للنظر في طلبها، فردّ عليها قائلا: ” إني دليل على مُسمّى، وهو ذات مقدّسة له نعوت الكمال والتنزيه، فقفوا حتّى ادخل على مدلولي. فدخل وخرج ومعه الإسم” المتكلم” يُترجم عنه للممكنات والأسماء بالموافقة.
تنزيها للذات الإلهيّة التي لا تعرف وصفا يذهب ابن عربي إلى اعتبار ان الله، الإسم الإلهي الجامع لبقية الأسماء الإلهيّة، هو الإسم الظاهر لباطن الذات الإلهية وليس الذات الإلهيّة المجرّدة كما يُعتقد. الأسماء الإلهيّة عند ابن عربي هي البرزخ العازل بين الذات الإلهيّة وبين الموجودات، وهي التي وهبت للعالم صفة الوجود.
تتكوّن دائرة الوجود عند ابن عربي من أربعة مستويات:
*المستوى الأوّل، هوّ البرزخ الأوّل أو برزخ البرازخ، واستوحى ابن عربي هذه التسمية من النص القرآنى القائل: “مَرَجَ البَحرَينِ يَلتقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ”، وهذا المستوى من الوجود خيالي ويتكوّن من أربع مراتب وهي: مرتبة الألوهية التي تضم مجموع الأسماء الإلهيّة، ثمّ مرتبة العماء وتضمّ الأعيان الثابتة في العدم، ثمّ مرتبة حقيقة الحقائق الكليّة، وأخيرا مرتبة الحقيقة المحمدية أو العقل الأوّل.
*المستوى الثاني في دائرة الوجود هوّ مستوى عالم الأمر، أو العقول الكلية ويضمّ العقل الأوّل او القلم الأعلى الذي ستُبعث منه النفس الكليّة كما بُعثت حوّاء من آدم، ثمّ بزواج القلم الأعلى بالنفس الكلية سيولد توأم الطبيعة والهباء وبزواج الطبيعة والهباء سيولد الجسم الكلّ أو الهيولى الكل.
*المستوى الثالث في دائرة الوجود هو مستوى عالم الخلق، حيث بداية تجليات الأسماء الإلهيّة وأوّل مراتب هذا المستوى هي مرتبة العرش ثم تليها مرتبة الكرسي ثم تأتي من بعدها مرتبة فلك البروج، واخيرا مرتبة فلك الكواكب الثابتة.
* المستوى الرابع والأخير في دائرة الوجود هو مستوى عالم الشهادة أو عالم الكون والإستحالة ويحتوي على الأفلاك السبعة المتحرّكة، التي تتوسّطها الشمس، ثم تأتي في مرتبة أدنى العناصر الطبيعية الأربعة؛ النار والهواء والتراب والماء وفي المرتبة الثالثة نجد المعدن والنبات والحيوان ومنها ظهرت الملائكة والجن والإنس.
ابن عربي سيوازي بين صرحه الفكري الخيالي حول نشأة الوجود وحروف اللغة العربية، وسيعتبر أن الحروف والكلمات تنبثق من نفس الإنسان في محاكاة لانبثاق الوجود من نفس الرحمان، فكل موجود من الموجودات هو كلمة من كلمات الله، لذلك قسّم الوجود إلى 28 مرتبة وكل مرتبة يوازيها إسم من الأسماء الإلهيّة وحرفٍ من حروف اللغة العربية الثمانية والعشرين.
كما أن تمازج الحروف والحركات في اللغة يمنحنا عددا لا يُحصى ولا يُعدّ من الكلمات كذلك كلمات الله لا تُحصى ولا تُعدّ وعملية الخلق الإلهي أبديّة، وللتدليل على التوازي بين الخلق والكلمات يستند ابن عربي إلى الآيات القرآنية التالية: ” قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا”، وكذلك الآية القائلة: “وَلَوْ أَنَّمَا فِى ٱلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَٰامٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ سَبْعَةُ أَبْحُرٍۢ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
في ترتيبه لمستويات الوجود والأسماء الإلهيّة والحروف التي تقابلها، يستثني ابن عربي المستوى الأول من الوجود وهو مستوى برزخ البرازخ الخاص بالذات الإلهية ليبدأ بالمستوى الثاني للوجود ليجعل المرتبة الأولى في هذا المستوى من الوجود هي مرتبة العقل الأول أو القلم، يوازيها كإسم إلاهي، “البديع”، والحرف الذي يناسبها، هو الهمزة أو الألف الممدودة. ثمّ المرتبة الثانية هي مرتبة النفس الكلية أو اللوح المحفوظ، يوازيها كإسم إلاهي، الباعث، وكحرف، الهاء. ثمّ المرتبة الثالثة هي مرتبة الطبيعة الكلية، يوازيها كإسم إلاهي، الآخر، وكحرف، الحاء. وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى المرتبة الأخيرة في الوجود وهي المرتبة الثامنة والعشرون والتي يسمّيها ابن عربي بمرتبة “المرتبة” وهي هامة جدّا في دائرة الوجود الأكبري لأنها مرتبة الوصل بين عالم الموجودات والذات الإلهيّة، ويوازيها كإسم إلهي، الرفيع الدرجات، وكحرف حرف الواو.
النظام الأكبري للوجود على درجة كبيرة من التناسق والإنسجام، فاختيار الأسماء الإلهية المناسبة لمراتب الوجود من طرف ابن عربي ليس دون حكمة وتبصّر، فالإسم الإلهي “البديع” مثلا يناسب أعلى مراتب الوجود، لأن اسم البديع من الإبداع، ويتضمّن معنى الخلق من العدم. والإسم الإلهي الذي أوجد الشمس هو “النور”، والإسم الإلهي الذي أوجد الهواء هو “الحي”، أما الإسم الإلهي الذي أوجد الماء فهو “المحيي”، والإسم الإلهي الذي أوجد التراب هو “المميت” لأن الإنسان بعد موته سيعود إلى التراب، أما الإسم الإلهي الذي أوجد البشر فهو “الجامع” أي “الله” وهو الإسم الذي يجمع كل الأسماء الإلهيّة. كذلك اختيار ابن عربي للحروف التي تتناسب مع مراتب الوجود ليس اعتباطيا بل يخضع لعمق مخارج الحروف في النفس الإنساني، فحرف الألف لأنه أعمق الحروف ويخرج من أقصى الحلق فهو يناسب أعلى مراتب الوجود وهي مرتبة العقل الأول أو القلم، ثمّ يليه حرف الهاء الذي يناسب مرتبة النفس الكلية أو اللوح المحفوظ، ثمّ يليه حرفي العين والحاء اللذين يخرجان من وسط الحلق ثم حرفي (غ، خ) الذين يخرجان من أدنى الحلق. اما الحروف التي تناسب مراتب الموجودات الحسية مثل الكواكب والحيوان والإنسان وعناصر الطبيعة الأربعة فهي إما ان تكون حروف شفوية وهي الْحُرُوفُ الَّتِي يَكُونُ مَخْرَجُهَا مِنَ الشَّفَتَيْنِ وهي: الفاء والباء والميم والواو أو حروف لثوية وهي الذال والثاء والظاء.
يقول ابن عربي متحدّثا عن الحروف:
إن الحروف أئمة الألفاظ
شهدت بذلك ألسن الحفاظ
دارت بها الأفلاك في ملكوته
بين النيام الخرس والايقاظ
ألحظنها الأسماء في مكنونه
فبدت تعز لذلك الألحاظ
وتقول لو لا فيض جودي ما بدت
عند الكلام حقائق الألفاظ.
*نجيب البكوشي باحث وكاتب تونسي.
أهم المراجع:
*الفُتوحات المكّية للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1999.
* هكذا تكلم ابن عربي، نصر حامد أبو زيد. الهيئة المصرية العامة للكتاب 2002.
*الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، هنري كوربان.
Henry Corbin, L’Imagination créatrice dans le soufisme d’Ibn’Arabî
*التصوّف، الثورة الروحية في الإسلام، أبو العلا عفيفي، مؤسسة هنداوي للنشر، القاهرة 2017.