إضاءاتالعناوين الرئيسية

الحقيقة المكتفية وبوح الرسائل.. أحمد علي هلال

هل يمكن لنا أن نكتشف في الرسائل المتبادلة ليس بين المبدعين فحسب، بل بينهم وبين عائلاتهم سراً ما بعينه بعيداً عما يذهب إليه التفكير بأدبيات الرسائل الشهيرة بوصفها ذاكرة ثقافية إضافية، لعلها تضاف لمنجز المبدعين؟!

على سبيل المثال وليس الحصر من يقرأ الرسائل المتبادلة بين الرسام الهولندي الأشهر فان جوخ وأخيه ثيودور، قراءة السطور وما بينها، قراءة دالة على معانٍ ثاوية في الصدور قبل السطور، وليجهر بها الواقع كتفصيل سردي ربما تحتاجه الرواية بوصفها متخيلاً يمزج الحقيقة بالخيال، فما تسرب من رسائل –جوخ- إلى أخيه كما رسائل أخيه له، سيأخذنا إلى فكرة (البطل المجهول) الذي ساعد على إرساء حقيقة قدمت فان جوخ فناناً عالمياً، مع فكرة جد ملتبسة لعلنا نصوغها بسؤال ماكر تُرى هل قطع جوخ أذنه لخاطر حبيبة ما بعينها، ومع هذا السؤال تغذى المخيال الأدبي والاجتماعي بمرويات متواترة، جعلت لفان جوخ مأثرة تميزه عن سواه من الفنانين.

لكن الحقيقة دائماً في مكان آخر وهو ما تشي به سياقات ومتون سبعمائة رسالة تبادلاها، أي بين فان جوخ وأخيه ثيودور، سيرى قارئون ومتابعون أنها مثلت (التحاماً بين الأخوين) ومحبة مشعة جعلت ثيودور يحمي موهبة أخيه.
يُرى في سياق هذه الرسائل ما قاله فان جوخ لأخيه ثيودور: (أنا حقاً لا أمتلك أي أصدقاء سواك، وعندما أمرض أنت دائماً في أفكاري)، فالأمر هنا لا ينطوي على امتداح صداقة بين أخوين، بقدر ما ينطوي على جزء حيوي في هذه الرسائل يحيلنا إلى شعور جوخ بالحاجة لتعلم الرسم التشكيلي للشخصيات، وحاجة كوخ إلى المال لرفد مشروعه، لكن رسالة ثيو الفارقة والتي يقول له فيها: (يؤلمني أن أعلم أنك ما تزال بصحة غير جيدة على الرغم من أن لا شيء في رسالتك ينم عن ضعف في العقل)!

هذا ما يشي بأن فان جوخ قطع جزءا من أذنه اليسرى أثناء الحلاقة عندما انزلقت الشفرة من يده جراء نوبة صرع، وما حدث للمخيلة الأدبية من جديد حينما أعادت هذه الحكاية عبر متخيل سردي يضع الكثير من التصورات أمام المتلقي حول فان جوخ وحادثته المأساوية، ما يعني أن الحقيقة ربما تأتي مصادفة على الرغم من توسلها، وأن الواقع حينما يمتزج بالخيال سيولد محكية لنا أن نكتشفها ونعيد تأويلها عشرات المرات.

.

*كاتب وناقد فلسطيني– سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى