الاقتصاد السوري والمواطن .. يزيد جرجوس ..

لا مجال للحديث عن الاقتصاد السوري بمعزل عن المواطن كأولوية وكدور وكهدف وكنقطة الاستقطاب والشرح والفهم، ليس فقط لأن المواطن يجب أن يكون محور السياسات الاقتصادية ولكن لأن المواطن السوري تحديدا عانى خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية بصورة متزايدة وصلت لمراحل أعتقد أنها الأقسى على مر تاريخه الحافل بالآلام والانكسارات، كما كان حافلا بالحضارة والانتصارات. لذلك ستكون هذه المقاربة محاولة جادة لوضع فكرة عن الأوضاع وتقديم الفهم لها، إضافة لتقديم التصورات عن الحلول.
لنضع أمامنا بعض الأفكار والإضاءات المفتاحية:
- إن أهم مبدأ يجب أن يكون حاضرا في ذهننا ونحن نخطط للنهوض هو الاستقلالية والتفرد، حيث يجب أن نخط لأنفسنا تجربتنا الخاصة وإن كانت مستلهمة ومسترشدة بما سبقنا إليه الآخرون، دون أن تكون استنساخا له.
- وضع وتطبيق الرؤية لتوجيه الاقتصاد لا يكون دائما في المواد القانونية، ولكنه كثيرا ما يجب أن يمر من بين سطورها، فالرؤية تكون أنجع عندما تتخذ لنفسها مسافة كافية لتتحول لمرشد من جهة، كما أنه ليس كل ما يقر كتوجه يقال كنص من جهة ثانية.
- حيث يوجد الروتين واحتكاك المواطن الموظف مع المواطن المراجع دون ضوابط إدارية باهرة ينمو الفساد.
- الفساد لا يضرب بيد من حديد ولكن يسحب البساط من تحته بيد من حرير.
- الفساد حاجة وثقافة، بالعقوبات “الرادعة” نحارب بعض الفاسدين، بينما بالتطوير التشريعي والإداري نحارب الحاجة والثقافة.
- في التجارة الداخلية فرض التسعيرة هو خنق لاحتمالات القيمة المضافة.
- المشاريع الصغيرة تولد عليلة محتضرة في بيئة التضخم والجباية.
سيلاحظ القارئ لهذه الأفكار أنها تمحورت بشكل أساس على ملف الفساد، وهذا يبدو منطقيا ضمن سياق الحالة السورية وكل ما يعتريها من أزمات متراكمة، ليس الفساد سببا رئيسا لها كوننا ندرك ولا نتعامى عن فظاعة الحرب والعقوبات، ولكن محاربته واحتواءه ستكونان محركا جوهريا في مواجهة تلك التحديات المعقدة، فسلسلة المشكلات المترابطة والمتراصة لا بد من تفكيكها للبدء في حلحلتها وإيجاد المخارج الآمنة منها، وليس هناك كالنزاهة والمناقبية من أسلوب إدارة لا يعمل فقط على حل المشكلات، ولكنه أيضا يؤلف القلوب فيصير حلا سياسيا أيضا، لذلك سنلج منه لإطلالة أكثر موضوعية على واقع المواطن السوري الاقتصادي.
الرئيس السوري بشار الأسد قال في مطلع الألفية:
“لا مجال للحديث عن محاربة الفساد بمعزل عن التطوير الإداري”
وهذا كلام دقيق واحترافي للغاية، فالفساد يتسلل كما نأشرت أعلاه من ثغرات النظام البيروقراطي، ومع تضخم الأزمة المعيشية وتضاؤل قيمة الليرة السورية ودخل المواطن السوري بشكل كبير جدا، أصبح بإمكاننا أن نضيف أنه لا مجال للحديث عن محاربة الفساد بمعزل عن تحسين الدخل، فكل حديث عن “ضرب الفساد بقوة” دون مراعاة الكفاية الاقتصادية هو إما يفتقر للرؤية في أحسن الأحوال، أو يبتغي تحصين الفساد ومنحه أسبابا جديدة في أسوئها.
إقرأ أيضاً: محطات مع درويش .. أزمة هوية .. يزيد جرجوس ..
ما هو “التطوير الإداري”؟! هو ببساطة ردم الهوة التي تتموضع بين المواد القانونية أو بين مكاتب وإجراءات تقديم الخدمة للمواطن، مثلا كانت فكرة “النافذة الواحدة” ضمن مؤسسات الدولة مثالا جيدا عن إغلاق الفراغات التي يمكن أن يتسلل منها الفساد بحيث يراجع المواطن مكتباً واحداً لتسليم معاملته ولاستلامها، دون الحاجة لقيامه هو بالانتقال من مكتب لآخر لما في ذلك من مخاطر ولادة الإكرامية والتسهيل التي ستتحول إلى فساد وتمرير. أيضا وكمثال أوضح وأكثر شمولية كانت فكرة “مراكز خدمة المواطن” التي ولدت في حمص عام 2007، ومن ثم تم تعميمها على أغلب المحافظات السورية. هذه الفكرة مكنت المواطن من الحصول على عدد كبير من الخدمات والأوراق الرسمية لمختلف مؤسسات الدولة (المياه والكهرباء والبنوك والمالية والنفوس والتجنيد والداخلية..الخ) وفي مكان واحد وبأسلوب بطاقة حجز الدور، وبالشراكة أحيانا مع القطاع الخاص في إدارة استقبال المواطن، وكل ذلك وفق خدمات الكترونية بالكامل لخدمات ووثائق مؤتمتة ضمن شبكة موحدة على مستوى القطر حيث يمكن استخراج وثيقة قيد مدني مثلا أو لاحكم عليه من أي مركز خدمة في أي بلدة مهما كان عنوان وموطن نفوس المواطن، بحيث تم التضييق بشكل كبير على هوامش الفساد والتمييز بين المواطنين، فجمع الخدمات في مكان واحد، وهو بدوره موجود على مستوى الجغرافيا، يقلل من تكاليف وعبء التنقل، إضافة للأتمتة كلمة السر في التطوير الإداري ومحاربة الفساد.
لماذا نطرح هذه الأمثلة؟! لأنها يجب أن تؤخذ كنموذج محلي لنجاحات تمت في الماضي يجب تعميمها والبناء عليها، خاصة أن المواطن السوري يستحق تخفيف الأعباء غير الضرورية عليه. وهنا أيضا أقصد كل كلمة أقولها، فالمطلوب ليس تحويل المواطن إلى عالة على الدولة، ولكن تسهيل وتوفير الجهود غير المنتجة التي يتسبب له فيها النظام العام أحيانا قليلة والإجراءات والقرارات في أحيان كثيرة أيضا. وكمثال على ذلك أذكر الإرباك الكبير الذي حدث بعد تطبيق رفع الدعم عن المواطنين الموجودين خارج القطر والخلل في بيانات عدد كبير من المواطنين، والذي اضطرهم إلى معالجة الخطأ بأنفسهم بدلا من أن تقوم المؤسسات المعنية بذلك، فوجدنا طوابير من المواطنين أمام أبواب فروع الهجرة قادمين من الأحياء والقرى البعيدة متجشمين عناء وتكاليف السفر الباهظة، ومرهقين بالوقوف ساعات طويلة أمام دائرة لم تكن محضرة للقيام بهذه الوظيفة لهذا العدد من الناس. كل ذلك كان يمكن تجنبه لو تحملت الوزارة المعنية برفع الدعم مسؤوليتها بالسعي هي لتصحيح البيانات مع الوزارات الأخرى دون تكبيد المواطنين كل ذلك الجهد غير المنتج الذي تسببت لهم به.
صغار الكسبة والتحصيل الضريبي ..
على المستوى الضريبي الذي لا يمكن إهماله في معرض الحديث عن الاقتصاد والمواطن، فإنه لم يعد مبتكرا الحديث عن حاجة الاقتصاد السوري لإعادة قراءة للقوانين الضريبية ولآليات التحصيل الضريبي، فالقوانين وحدها لا تسير بدون ساقين من الإجراءات والبنية التحتية المطلوبة للاستعلام والمتابعة والتحصيل. في هذا السياق الحكومة تسير بالشق الثاني المتعلق بالبنية التحتية والتحصيل معتمدة مبدأ الأتمتة وهذا خير، ولكن إعادة قراءة الواقع هي حجر الرحى في هذا السياق، فالمشاريع الصغيرة التي شدد الرئيس الأسد في كل إطلالاته ذات الصلة على أنها “يجب أن تكون ركيزة بناء الاقتصاد السوري” تولد عليلة محتضرة بسبب عدد من العوامل (ارتفاع الإيجارات والكهرباء التجارية وضرائب الدخل والخدمات، إضافة إلى تكاليف الوقود والكهرباء البديلة بالسوق السوداء) هذه العناوين مضافا إليها ضعف الرواتب والأجور تشكل حبلا يلتف حول أي مشروع صغير، تماما كما حول أي صاحب راتب أو معاش تقاعدي، وإذا كانت الدولة غير قادرة على تفكيك ومعالجة بعضها حاليا مثل رفع الأجور وتأمين الكهرباء والمشتقات النفطية، ولا يسعها بحال من الأحوال التحكم بالإيجارات، فهي قادرة على تخفيف العبء على المستوى الضريبي. وصحيح أن تخفيض الضرائب عن الشرائح الأضعف ماديا في المجتمع سيتسبب بانخفاض في العائدات الضريبية خاصتهم، ولكنه أيضا سيتسبب بازدياد عدد المقبلين على الدخول في سوق المشاريع الصغيرة من جهة، وسيتسبب بازدياد القوة الشرائية لهذه الشريحة، وتاليا سيتسبب بتحريك رأس المال وتحسن أعمق في الاقتصاد والذي سيعني ارتفاع التحصيل الضريبي تزامنا مع النهوض الاقتصادي كثمرة له، بدل أن يكون عائقا في طريقه.
بصراحة تبدو كلمة “العمق” وكأنها مربط الفرس في ضعف التخطيط الاقتصادي والإداري للحكومات المتعاقبة في الأزمة، لأنها غالبا توجهت لإجراءات وقوانين تتعامل مع السطح، وبالتالي يكون أثرها ترقيعيا غير عميق وقصير الأمد ضعيف الأثر، بينما ما يحتاجه الاقتصاد إجراءات عميقة بعيدة الأثر لأنه من العلوم التجميعية التي تعنى بالتراكم، وهذا يتطلب دراسة وتمكين كل خطوة لأنها ستكون لبنة ترتكز عليها الخطوة اللاحقة. في هذا السياق تحديدا أرى أن “تحصيل مبلغ ضريبي أقل ناتج عن نسب ضريبية صغيرة بدون فساد، هو أفضل على المستقبل الاقتصادي الوطني، من تحصيل المبلغ نفسه ولكن بالفساد للتلاعب على نسب ضريبية أعلى”.
المشاريع الصغيرة أيضا تحتاج تخفيضا في قيمة فواتير الكهرباء على قاعدة تشريح أسعار أول 500 كيلووات، لتكون تصاعدية بحيث يدفع من يستهلك أكثر نسب أعلى ومن يستهلك أقل نسب أقل، وهذا إذا شكل دافعا لدى التجار والمنتجين الصغار لابتكار طرق لتوفير الاستهلاك للبقاء ضمن الشريحة الأقل، فإن ذلك أسوة بما سبق وقدمته من دراسة عن تشريح أسعار المواد المدعومة وربط ذلك باستهلاكها، سيكون قمة نجاح الإدارة الاقتصادية “دفع المواطن لتخفيف فاتورة المواد الرئيسة كالكهرباء والوقود على الاقتصاد الوطني”.
أيضا يجب منح مرونة أكبر في قوانين وإجراءات التسجيل بالتأمينات تغلب فكرة الرضى والاتفاق المتبادل بين صاحب العمل والعامل على فكرة قسرية التسجيل وفق شروط وإجراءات معقدة في الانفكاك، مع إيجاد صيغ مؤقتة للتسجيل للعمل التجريبي أو التدريب( 3 أو 6 أشهر).
إذ كلما منحت البيئة القانونية المزيد من المرونة وسهولة التسجيل إجرائيا وزمنيا مع مراعاة نوع وحاجة العمل، سنشهد المزيد من التسجيل في التأمينات، لأنها يجب أن تكون حاجة ومصلحة لكلا الطرفين المتعاقدين حتى يقدما طوعا عليها ونخفف من الرغبة بالتهرب التأميني. أما فرض التسجيل وخاصة على المنشآت الصغيرة التي يديرها أصحابها ببساطة كان ضربة قاضية لهم.
إقرأ أيضاً: التنمية البشرية في سوريا بعد الحرب .. يزيد جرجوس ..
معضلة التجارة الداخلية ..
يكاد يكون ملف التجارة الداخلية وعقلية إدارته من أهم وأكبر الضغوط على واقع المواطن الاقتصادي، ومن عوائق نمو ونهضة الأعمال في القطاع المعني بالمشاريع الصغيرة والمتناهية في الصغر. إذ ما تزال قوانين وزارة التجارة الداخلية ولعقود طويلة تصر على عقلية “فرض التسعيرة” خلافا لكل قوانين الاقتصاد والعلوم الإنسانية، فالتسعيرة المفروضة من جهة تقوم بقتل روح الإبداع والتطوير لإنتاج القيمة المضافة لدى المنتج ومقدم الخدمة، لأنها تساوي بين كل المنتجين بغض النظر عن مستوى الخدمة أو المنتج الذي يقدمونه، ما يعني أن صاحب العمل لن يسعى لتحسين وزيادة مواصفات ونوعية خدمته التي ستكلفه المزيد من التكاليف، طالما أن السعر محدد مسبقا. من جهة ثانية فإنه لم يحدث أن تمكنت دولة أو حكومة في التاريخ من تثبيت سعر سلعة معينة إلا إذا كانت هي تنتجها وتحتكرها وقادرة على تأمينها بكميات تفوق حاجة السوق، لأن السعر لا يمكن بحال من الأحوال أن يتعارض مع آليات العرض والطلب. لذلك فإن نظام عمل التجارة الداخلية المبني على فكرة “فرض التسعيرة” لا يخفق فقط في فرضها، ولكنه يتسبب فيزيائيا بعدد من الآفات وهي:
- تشكل الفساد تواطؤا بين المراقب والتاجر “الفلهوي”.
- ازدياد التكلفة على التاجر نتيجة الرشوة التي يدفعها وتاليا ارتفاع الأسعار.
- نمو الاحتكار نتيجة خروج التجار الصغار من السوق لعدم تمكنهم من مجاراة آلية الرشوة وحرية البيع، أو لعدم رغبتهم في دخول هذا المعترك غير الآمن، بحيث يستفرد التاجر “الفلهوي” بالسوق.
- نشوء السوق السوداء للسلعة، وهذا أمر اختبره كل السوريين خلال سنوات الأزمة، فكلما تم فرض سعر لسلعة تفقد من الأسواق، وتوجد بسعر للسوق السوداء في الوقت نفسه.
هذا طبعا لا يعني تحرير أسعار المواد الرئيسة التي تستحوذ الدولة على تجارتها كالوقود والخبز والغاز، ولكن السعي لتأمين الكمية الكافية للطلب عليها كما أشرت أعلاه.
إن مهمة حماية المستهلك الأساسية يجب أن تكون مراقبة الجودة والمكونات وتواريخ الصلاحية، إضافة للإعلان عن الأسعار حتى لا يتم خداع المستهلك، وليس فرضها. إضافة لآليات التدخل الإيجابي عبر بيع المنتجات من خلال نوافذ المؤسسات التجارية الحكومية بأسعار منافسة تلجم تضخم الأسعار، وهذا لن ينجح أبدا طالما أن هذه المؤسسات تعتمد على تجار كبار في توريداتها بديلا عن حدوث العكس.
إقرأ أيضاً: مقاربات ديمقراطية .. تناقضات على وجهي الحقيقة .. يزيد جرجوس ..
في النهاية فإن ربط الأجر بالإنتاج أيضاً يشكل قاعدة علمية في الاقتصاد وعلم النفس طال التعامي عنها أو المكابرة في الاعتراف بها تماما كما مسألة تحديد الأسعار، ولكنه من الجيد أنه تم مؤخرا فتح ثغرة في جدار الإنكار ذلك، والتي نعول عليها لتنظم وتكبر وتصير واجهة مضيئة في موضوع دخل المواطن السوري بعد كل تلك المعاناة، والتي من السياق العلمي لهذا البحث يتبين أن جزءاً منها يمكن معالجته عبر التطوير الداخلي ومحاربة الفساد والتفكير خارج السياق المكرر، تماما كما اتخذ قرار بالإعفاء الضريبي الكامل ولمدة خمس سنوات عن الأحياء المتضررة في حمص وحلب ودير الزور، بصورة مرضية تماما كطريقة لتعويض المواطنين عن آثار الحرب القاسية عليهم عن طريق الإعفاءات طالما أن خزينة الدولة غير قادرة على منحهم التعويض المادي المباشر.
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب