“صورة الغُرفة في شعر علي محمود طه”… فادي سهو

|| Midline-news || – الوسط …
.
البيت مأوى الإنسان، يحميه من أخطار الطبيعة، من أمطارها، وثلوجها، وبردها، وغبارها، وحرّها، يستره من الآخرين، ممّا يجعل له خصوصية مكانية يحيا في إطارها، فبيت الإنسان هو من صنع يديه، يُعمل أفكاره وعلمه وخبرته في تشكيل صورته.
البيت هو الحاضن لذكريات الإنسان، يحتضن سنينه، وذكريات طفولته، حلوها ومرّها، ويولّد البيت أبعادًا اجتماعية وثقافية، تميّز كلّ بيت من الآخر، ويتحوّل هذا الارتباط المكاني من قيمة جغرافية إلى رابطة معنوية ذات دلالة وقيمة، تحفّز الفرد للحفاظ عليه، وتجميله، والدفاع عنه، لدرجة الوصول إلى الموت.
لا غرو أنّ كائنات أخرى تتخذ لنفسها بيوتًا أو جحورًا أو أوكارًا أو أعشاشًا، وهي لحفظ النوع، وللحماية من الأعداء، ومن غضب الطبيعة. ولكن بيت كلّ كائن من تلك الكائنات هو نفسه لم يتغيّر منذ آلاف السنين، لم يتطوّر، ولم يتغيّر، وهو نفسه عند أفراد النوع الواحد، لا خلاف فيه بين بيت وبيت، وهو بيت تقود إليه الغريزة، ولا يضاف إليه شيء من تطوير، بخلاف بيت الإنسان.
إنّما بيت الإنسان هو المتعدّد والمتنوّع والمختلف، وهو المتغيّر والمتطوّر، وهو الذي يميّز الإنسان من غيره أيضا، ولذلك تعدّدت أنواع البيوت واختلفت، بتنوّع الأفراد واختلافهم، لأن البيت منذ البدء ما هو إلا تعبير عن ذات الفرد، ولعلّ أجلى صورة للبيت نجدها في غرفة شاعر.
يقول الشاعر المصري علي محمود طه (1902-1949)، في قصيدة عنوانها “غرفة الشاعر”:
أيّها الشاعر الكئيب مضى الليل وما زلت غارقًا في شجونك
مُسلمًا رأسك الحزين إلى الفكر وللسهد ذابلات جفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى في ارتعاش تمرّ فوق جبينك
وفم ناضب به حَرّ أنفاسك تطغى على ضعيف أنينك
لست تصغي لقاصف الرعد في الليل ولا يزدهيك في الأبراق
قد تمشّى خلال غرفتك الصمت ودبّ السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشاحب يهفو عليك في إشفاق
وبقايا النيران في الموقد الذابل تبكي الحياة في الأرماق
أنت أذبلت بالأسى قلبك الغضّ وحطّمت من رقيق كيانك
آه يا شاعري لقد نصل الليل وما زلت سادرًا في مكانك
ليس يحنو الدجى عليك ولا يأسى لتلك الدموع في أجفانك
ما وراء الشهاد في ليلك الداجي وهلّا فرغت من أحزانك؟
فقم الآن من مكانك واغنم في الكرى غطّة الخَلِيّ الطروب
والتمس في الفراش دفئا ينسيك نهار الأسى وليل الخطوب
لست تُجزى من الحياة بما حملت فيها من الضنى والشحوب
إنّها للمجون والختل والزيف وليست للشاعر الموهوب
لقد بنى الشاعر قصيدته على أساس المقاطع، فهي تتألف من أربعة مقاطع، لكلّ مقطع قافيته، وكلّ مقطع يتألّف من أربعة أبيات، فيها تفاصيل كثيرة، وعناية لا محدودة من الجزئيات، إضافة إلى غناء الشاعر واسترساله في البوح، وهي تسمّي المشاعر وتحدّدها، وتعتمد على خطاب الذات وندائها اعتمادًا واضحًا.
وتعبّر عن نزوع رومانتيكي مفرط في الحزن إلى درجة اليأس من الحياة بسبب ما يعتريها من زيف، فالشاعر يخاطب ذاته، ويصوّر نفسه حزينا كئيبا، وهو ما يزال وحيدا في غرفته، غارقًا في شجونه، مُمسكا بالقلم يكتب الشعر، وغرفته من حوله يدبّ فيها السكون، ولي فيها غير سراج شاحب الضوء، وبقايا نار في مدفأة خامدة، ويمرّ الليل والشاعر ساهر وحده، لا أحد يشفق عليه سوى نفسه التي تدعوه أن يأوي إلى الفراش، فهو لن يفيد من دنياه شيئا، لأنها قائمة على الزيف والمجون، ولا مكان فيها للشاعر.
فالقصيدة تنمّ عن حزن يعتصر قلب الشاعر، ويجعله يعيش وحيدا، منعزلا عن العالم، وقد يظنّ أنّ أمر عزلته مردّه إلى شيء خاص، ولكن سرعان ما تكشف القصيدة في النهاية أنّ سبب هذه العزلة وذلك الحزن هو المجتمع، الذي يسوده الظلم والفساد والمجون والخداع والزيف، وهنا تظهر ذات الشاعر لا بوصفها ذاتا فردية منعزلة، وإنّما بوصفها ممثلة لوجه آخر يقابل الزيف والمجون. هو وجه الشاعر الذي يمثل القيم والأخلاق والمشاعر، وهو وجه حزين، ضائع في المجتمع، ولا نصيب له في الحياة، وبذلك يغدو الحزن أخلاقيا، ذا قيمة اجتماعية، ومعبّرا أساسيا عن إحساس عميق بين الفرد والمجتمع، بين الجمال والشعر، والفنّ، والقيم، والأخلاق، وما يناقضها هو السائد في المجتمع.
انطوى الشاعر على نفسه أول شبابه، ومال إلى الهدوء والكآبة، تمشيا مع روح عصره، ومن هنا فلم تعد غرفته محض غرفة صغيرة، بل أصبحت مكانًا للقيم والمثل والفنّ والأخلاق والمشاعر.
وإلى جانب غناء المشاعر والاسترسال في البوح بها تظهر في القصيدة بعض العناصر والجزئيات الحسيّة المكونة لبنية الغرفة والموحية بجوّ من الحزن والألم والشعر، وتتمثّل تلك الجزئيات في ذات الشاعر، فهو يذكر جفونه الذابلة من السهر، ويده الممسكة باليراع، وفمه الناضب أنفاسه الحارة وأنينه الضعيف، ثمّ يذكر صمت الغرفة وسكونها، والسراج الشاحب، والموقد الخامد، وقد أحاط الليل بالجميع. وبهذا يضع الشاعر ذاته إلى جانب تلك الأشياء لأنّها تحوّلت مثله إلى أشياء، وفقدت الذات قيمتها في عالم طغت فيه المادّة وسيطر عليها الكذب والزيف، حتّى فقد الشاعر ذاته.
ومثل هذا الذكر لتلك الجزئيات والعناصر الحسيّة لا ينجي القصيدة من المباشرة والتقرير، ولا يحوّلها عن التعبير إلى التصوير، لأنّها جزئيات واردة في سبيل غنائي تعبيري يطغى عليه الخطاب والنفي والنداء والتقرير.
ويؤكّد ذلك النداءات الآتية: أيّها الشاعر، آه يا شاعري، كما يؤكّده الخطاب التقريري في جمل كثيرة منها: ما زلت غارقا، لست تصغي، فقم الآن من مكانك، واغتنم، والتمس، لست تجزى. كما يلاحظ إكثار الشاعر من الصفات: الشاعر الكئيب، رأسك الحزين، في ضوئه الشاحب، الموقد الذابل، ليلك الداجي، الشاعر الموهوب…. وهي صفات كثيرة تؤكّد الغنائية وتبطّئ الحركة، وهي لا تضيف للموصوف سوى صفة واحدة، وتقيّد الخيال، ونلاحظ افتتاح القصيدة بالشاعر الكئيب، واختتامها بالشاعر الموهوب، وفي هذا ما يعطي القصيدة نوعًا من التماسك والوحدة، فالشاعر الكئيب هو ذاته الشاعر الموهوب، وممّا يزيد قوّة القصيدة هو انكشاف سرّ كآبة الشاعر في البيتين الأخيرين من القصيدة، ويكمن ذلك السرّ في ما يطغى على المجتمع من زيف ومجون وختل، وبذلك تأتي فكرة القصيدة كلّها في نهايتها، بما يشبه بيت القصيد.
*روائي وأكاديمي سوري
http://تابعونا على صفحة الفيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews