الإسلام “في قفص الاتهام” .. يزيد جرجوس

يبدو أن الإسلام يعاني ما يعانيه من اضطراب في سمعته وحالته الحضارية على مستوى العالم، حيث توسعت دائرة اتهامه بالتطرف وحتى بالإرهاب بصورة لافتة في تركيزها عليه من جهة، وفي غضها للطرف عن غيره من جهة أخرى، ما يدفعنا للشك كما العادة في تلك “المقولات الثابتة” ويُحتِّم علينا العمل على تفكيكها ومحاولة استكشاف بعض أسبابها على أقل تقدير.
فهل الإسلام كدين هو المتهم هنا؟، وهل يصح، أو لنكون أكثر دقة وتوجيها، هل يفيد اتهام العقيدة (أياً كانت)، أم يجب الالتفات إلى معتنقيها وحملة معتقدها وممارسي طقوسها كشريحة أو كشرائح بشرية اجتماع-سياسية وحضارية؟، وهو ما يعني بالضبط أن ننتبه إلى مسألة التمييز بين “الدين” وبين “الفكر الديني”، علماً أنه علمياً لا يمكن تحييد الدين نفسه عن دوره في صياغة الفكر الذي ينشأ ويترعرع بناء عليه، وقد قال المرجع الإسلامي الكبير محمد حسين فضل الله في لقاء على تلفزيون لبنان 1996 عند سؤال الصحافي غسان تويني له عن ماهية ما يتوجب علينا فعله كعرب وكمسلمين “من أجل الولوج الناجح حضارياً إلى الألفية الثالثة”:
“علينا فتح باب النقاش في كل شيء، حتى فيما نعتقد” ..
طبعاً هذه الدعوة تبدو في غاية الشجاعة وهي مستحقة بنفس الوقت، فالعقيدة التي تخشى من الفكر سوف تهزم في مواجهته حتماً. ولكن هذا لا يعني أن العقيدة نفسها تتحمل تبعات أفعال أتباعها، خاصة وأن هؤلاء، ووفق الخصائص البشرية لأدمغتهم، سيفهمون العقيدة كل مرة بطريقة جديدة، لهذا يمكنني القول بأنه تبعاً لطريقة فهم وتقبل الأفكار الجديدة وفق التصورات الذاتية لكل إنسان والمتأثرة بالخبرات والإمكانات، يوجد لدينا مئات ملايين النسخ من كل دين معروف بحسب عدد معتنقيه.
هذا ولم نتحدث بعد عن المؤثرات السياسية بما فيها الخطط والدسائس الفاعلة على مسرح التاريخ البشري، وأطر الاستثمار والاستخدام الدائمة. فالتعامل مع الإسلام نفسه يبدو “دوغمائيا” يدمج بين الدين ومعتقديه بصورة مبالِغة في التعميم، كما أنه يوضع باستمرار على طاولة تلك الماكينة السياسية العالمية العاملة منذ عقود على مشروع للاستثمار السياسي والاستراتيجي فيه وفق محورين:
1- الترويج للإسلاموفوبيا، وصناعة ذلك “الغول” الذي غزا عقول الكثيرين خلال العقود الماضية ورسَّخ فيها “مسلمات” مثل أن “الاسلام دين لا يتفق مع الحضارة والنهضة”، وهذه مقولة ترتكز على “أطروحة” صمويل هنتغتون في كتابه “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”، التي يخلص فيها إلى أن “الحضارة الغربية ستواجه بشكل دائم الإسلام الذي لن يتوافق مع قيمها”.
هنتغتون قدم فكرته تلك أولاً في مقال “صراع الحضارات” 1993، ولكنه في كتابه ومن خلال العنوان وحده يوحي بأن الهدف منه ليس الدراسة والبحث، ولكن الترويج حيث يربطه بـِ “إعادة تشكيل العالم” .. إذاً نحن أمام تنظير جيواستراتيجي وليس أمام أطروحة فكرية، خاصة وأن المنظر الأميركي الكبير، يغفل في نظريته وجود دول مسلمة تتفوق حضاريا على الكثير من الدول غير المسلمة مثل ماليزيا، كما أنه يهمل وبشكل متعمد أيضا النهضة الحضارية الكبيرة التي أنتجتها الدولة الإسلامية في زمن نهضتها حيث يقول الباحث والمفكر السوري الكبير (فراس السواح) في لقاء تلفزيوني (برنامج “مختلف عليه” 5.10.2020):
“في القرن الثاني للدولة الإسلامية حدثت معجزة علمية حضارية كتلك التي حدثت عند الإغريق، وآثارها موجودة في حضارة الغرب إلى يومنا هذا”
وهذا يطابق شهادة العالم الروسي (سيرغي سافيلف) الذي قال في البرنامج المرموق على شاشة روسيا اليوم “رحلة في الذاكرة”:
“الحضارة في أوروبا مدينة بنهضتها للحضارة العربية، وخاصة إبان الدولة الأموية في الأندلس، والعباسية في بغداد، حيث كانت الدولة تأتي بالعلماء وتصرف على البحث العلمي، وتطلب منهم ترجمة العلوم السابقة، وإثبات النظريات العلمية شرط عدم اللجوء إلى النص الديني في ذلك، ما أنتج تلك الطفرة العلمية الكبيرة”.
طبعا ما أحوجنا ونحن نستذكر تلك النهضة أن نحاول محاكاة قيمها اليوم.
2- احتضان المتطرفين.. وهنا مكمن الدهشة في تلك السياسة الملتوية للغرب الذي يصنع الاسلاموفوبيا، ويحتضن ويمول ويدعم ويستخدم الإسلاميين المتطرفين في نفس الوقت. يتحدث الكاتب البريطاني (مارك كورتيز) في كتابه (التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين) بإسهاب عن دور بريطانيا في نشأة ورعاية الجماعات الإرهابية:
“إن جميع الحروب التي اتخذت طابعاً جهاديا،ً لعبت بريطانيا الدور الرئيس فيها، في أفغانستان والبوسنة وحتى حرب أذربيجان وأرمينيا حول ناجورنوكاراباخ، والحرب في كشمير”.
يمكننا بسهولة ملاحظة ذلك التواجد الكبير لقيادات وزعامات ومنظري الجماعات المتطرفة الإسلامية في دول الغرب وخاصة في بريطانيا، وهذا الجانب الآخر من احتضان المتطرفين في داخل جغرافيا الغرب وليس فقط كأداة جيوسياسية خارجية تستخدم في إشعال الحروب أو تنفيذ الاعتداءات في دول العالم. لقد استمرت الميديا والسياسة الغربيتين بوصف المتطرفين الإسلاميين بـِ “دعاة الحرية” خلال أحداث “الربيع العربي” الدامية التي كان لهؤلاء الدور الأبرز في إسالة الدماء وتدمير المجتمعات فيها.
هذه الازدواجية المفرطة في فجاجتها، تدلنا بوضوح على المقاصد الخبيثة لهذه السياسات التي عُمِلَ عليها لفترة سأمر على مرحلتين أساسين منها، ومن خلال الوقائع فحسب:
* مرحلة تحضير بنية الوعي المتطرف، حيث عُمِلَ لعقود على استفزاز الوعي الجماعي للشعوب المسلمة، بطريقة تدفعها للانكماش الحضاري نتيجة عنوان ملح على جدران وعيها وهو “الاستهداف بناء على انتمائها الديني”. طبعا الحقيقة أنها لم تكن مستهدفة بناء على ذلك ولكن استغلالا له للأغراض والمصالح الجيوسياسية التي يمكن تحقيقها من خلال تطرف الشعوب وهجوعها في الجمود الحضاري، ومن ثم نزق أفعال المتطرفين مقابل استنفار الآخرين ضده.
فالمسألة لم تكن فقط استثمارا في الحالة الذهنية والسلوكية للمسلمين عبر الضغط على وعيهم، ولكن أيضا في الحالة الذهنية لغير المسلمين عبر ردة فعل بعض المسلمين المدفوعين للتطرف، وتعميم هذه الردة وتأطير الإسلام والمسلمين ضمن إطارها المتحجر.
كل الأحداث التي مرت بشكلٍ قاسٍ على الشعوب المسلمة خلال العقود الماضية منذ السبعينات في القرن الماضي، مثل (كتاب آيات شيطانية) و(حرق القس تيري جونز للقرآن في نيويورك) و(الرسوم المسيئة لمحمد في الدنيمرارك) و(الاقتحام المتكرر للمسجد الأقصى في فلسطين المحتلة) و(احتلال العراق و”زلة لسان” بوش الابن عن “الحرب الصليبية” وما رافق ذلك من ممارسات سجون الاحتلال التي تركزت على الإهانة الجسدية الجنسية وتحقير المعتقد) و(سجن غوانتنامو وما تضمنه من ممارسات ورسائل موجهة للعقل المسلم).
كل ذلك يبدو عملا ممنهجا لدفع المسلمين أو شريحة مطلوبة منهم وتحت ضغط “استهداف الهوية” للتطرف بشكل عميق ومتراكم فكريا، ما يجعل منهم وقودا جاهزا للاستخدام في ساحات متنوعة للصراعات القائمة أو تلك التي يشعل فتيلها الغرب ويعمل على إدامتها والإفادة منها في حربه لإحكام السيطرة على العالم، والتي تحتاج أعداء وأدواتٍ بشكل مستمر.
* مرحلة الاستثمار وقلب الموازين والتي بدت بأوضح أشكالها كما نوهت أعلاه في أحداث “الربيع العربي”، فالمتطرفون الإسلاميون لم يستخدموا فقط في إشعال فتيل النزاعات الداخلية والبينية في الدول المستهدفة ومشاريع تدمير المؤسسات وتقسيم الدول، ولكنَّ انقلابا ما في غاية الأهمية تم إنجازه على مستوى بنية وعيهم من خلال التدخل الغربي العلني الداعم لهم في تلك الأحداث، حيث انقلب الإسلاميون من “أعداء للصهيونية ومجاهدين في سبيل فلسطين، وكارهين للغرب الكافر” إلى أعداء لدول المعسكر الشرقي كروسيا والصين وسوريا وإيران، مع تلك الدفعة الكبيرة من الشقاق في الصف الإسلامي حيث أصبحت “إيران الشيعية هي العدو بديلا عن الكيان الغاصب بالفعل”.
إن ذلك يتراءى لي كأحد أهم محاور سير “الربيع العربي” والتي نادرا ما تحدث عنها أحد.
لا أعلم كيف يمكن طمس الإرث الحضاري للإسلام والتغافل عن كل القيم والعادات والتقاليد الرحيمة التي حملها في رحلة دخوله إلى الحضارة البشرية ومساهمته الفاعلة فيها، وهو اليوم يعتبر العقيدة الأكثر حضورا وقدرة على التوسع والانتشار، بما في ذلك تلك الضوابط التي يضعها في تنظيم الحياة العامة والتي لا يمكن لأي منا أن ينكر أنه رصد منها آثارها في الحياة المتنوعة التي نعيشها، فالدين بشكل عام في أحد تجليات نشأته وتشكله هو آلية لتنظيم الأنا العليا عبر محاولة لوضع وتثبيت وتعميم أخلاق معينة في وسط اجتماعي معين. تماما كما تلك النهضة العلمية الحضارية التي استطاع الناس إنتاجها ضمن الدولة أو الحضارة التي قادها الإسلام لبضعة قرون من الزمن وبدفع انتربولوجي منه تحديدا.
كما أنه ومن زاوية تراثية ترنو إلى المنتج البشري الحضاري بإطلالة موضوعية لا يمكن إغفال أن الدين بكل ما يضم من الاجتهادات اللاهوتية والفقهية والعلمية واللغوية والتراثية.. الخ يشكل أحد أهم منتجات الحضارة البشرية ثقافيا، وهذا واقع تقر به العلوم قبل الأديان. لذلك أعتقد أن النظرة إلى الدين الإسلامي يجب أن تكون عابرة للظرف الحضاري والإنساني التاريخي الذي نعيشه اليوم، ولا بد من تنقيتها من كل عوالق الاستثمار السياسي الذي اعتراها، وأيضا من إخفاقات وانحرافات المسلمين أنفسهم في مراحل معينة أو لدى شرائح معينة، لأن تلك الإرهاصات يجب أن تعالج بالتنوير لا أن تستخدم لاستعداء الدين وأتباعه بالتهجم والتشهير، فليس ثمة عقيدة على مدى التاريخ لم يمر أتباعها في مراحل من التراجع الحضاري والإخفاق.
إقرأ أيضاً .. بعقل بارد .. من سوريا إلى أوكرانيا ..
إقرأ أيضاً .. تفكيك الاحتلال كظاهرة جيوسياسية ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب