إضاءاتالعناوين الرئيسية

الأغنية والسياسة … مراد داغوم

 

الأغنية والسياسةمراد داغوم

الفنُّ أعلى مرتبةً من السياسة، فالفنُّ جامع إنساني والسياسة بعكسه، والعلاقة بينهما تتبع الحاجة. فالسياسة بحاجة للفن لتطهير سمعتها، ويحتاج الفن للسياسة لتأكيد واحد من أهدافه، وأعني الانتشار هنا، فأهداف الفن المتبقية أسمى من أن ترتبط بالسياسة.
تتبدى السياسة بالحكومات والأحزاب وأهدافهما، ويظهر الفن بأدواته ومُنتِجيه. تتوجه السياسة إلى المجتمع للنهوض أو لحماية مكتسباته المادية المختلفة، ويضطلع الفن برفع سوية الفكر، فإذا خلا من المضمون الفكري يغدو مجرد ترفيه أجوف. سأتجاهل مؤقتاً علاقة السياسة بالفن، فذلك من المحظورات التي تتخطى حدود البلاد العربية، ولنعاين معاً بإيجاز كيف وظف بعض الفنانين أعمالهم تبعاً لأحداث سياسية واجتماعية، في سبيل عرض موقف الفنان من الحدث أو الفكرة وإيصاله إلى جموع المتابعين.
برأيي الخاص، كانت أغنية Blowin’ in the Wind سنة 1962 للمؤلف والمغني Bob Dylan من أرقى الأغنيات السياسية في العالم من حيث تضمنها موقفاً إنسانياً وخطاباً بالغ التأثير في الجموع ضد الحروب والتمييز العنصري، عدا عن اللحن البسيط الذي يعبر من الأذن للفؤاد مباشرة. سبقتها زمنياً أغنية A Change Is Gonna Come للمؤلف الكبير Sam Cooke الأميركي/الأفريقي، التي أطلقها بعد حادثة عنصرية مقيتة اعترضته في فندق Holiday Inn North في لويزيانا من قِبل موظفي الفندق والشرطة المحلية. لكنه تأثَّر بشدة بأغنية Bob Dylan لأن الاحتجاج ضد التمييز قد صدر عن رجل أبيض. أحب Cooke أغنية Dylan كثيرًا حتى تم دمجها على الفور في مجموعته الموسيقية. أتمنى أن يتاح لي مستقبلاً الحديث بالتفصيل عن الكثير من الأغنيات العالمية التي ظهرت بدوافع سياسية واجتماعية مختلفة، وسأوجز هنا ما يمكن اعتباره أغنيات ذات دوافع سياسية في الغناء العربي.

الأغنية والسياسة … 
وكي لا يتم الخلط بينها وبين ما يسمى اصطلاحاً “أغنية وطنية” أقول إن السياسية تتضمن أفكاراً أكثر عمقاً من موضوع التغزل بالوطن، بل تتجاوز ذلك إلى طرح أفكار سياسية واجتماعية، قد لا تكون بالضرورة واضحة للوهلة الأولى. وكمثال على ذلك أذكر الأغنية القصيدة العظيمة “سائليني يا شآم”. بكل الحياد، أذكر هنا بحسب رواية الصحفي اللبناني شربل القنطار، الذي رافق الشاعر “سعيد عقل” إلى بغداد. قال الشاعر رداً على استفهام الصحفي: كان الرئيس جمال عبد الناصر يخطب على شرفة قصر المهاجرين في دمشق، وقال في خطابه وهو يتكلم عن الشآم «إنه سيدخلها التاريخ»، عند سماع الشاعر سعيد عقل هذه الفقرة، تذكر قصيدته عن الشآم وما كان قد أورده في كلامه عن أهلها: أهلك التاريخ من فُضْلَتِهم – ذكرهم في عروة الدهر وسام أمويون فإن ضقت بهم – الحقوا الدنيا ببستان هشام، واتصل مباشرة بالأخوين رحباني وسألهما إذا استمعا إلى خطاب عبد الناصر، فأجاباه بأنهما استمعا إليه واتفقوا على أن يمر بهم الشاعر ومعه القصيدة القديمة، وهذا ما حصل. فاستعرضوا قصيدة «سائليني يا شآم»، وانتقوا منها الجزء الذي نعرفه وغنته فيروز، و نزلت الأغنية إلى الأسواق ولاقت رواجاً كبيراً، وبدأ بثها من الإذاعات العربية، وبخاصة الإذاعة السورية وإذاعة «صوت العرب» من القاهرة. لكن سعيد عقل وجد أن «الرسالة» للرئيس عبد الناصر لم تصل، فاتصل بالنائب اللبناني إميل البستاني (رئيس شركة «الكات» التي كانت أشهر وأكبر شركة عربية في خمسينات القرن الماضي)، وكانت تربطه علاقة خاصة بعبد الناصر ويلتقي به بشكل متواصل، فأخبره سعيد عقل بما يتصل بقصيدته التي غنتها فيروز، وطلب منه إبلاغ عبد الناصر ظروف الأغنية، وبعد أيام عدة من لقاء إميل البستاني بسعيد عقل سافر إلى القاهرة والتقى عبد الناصر وأخبره عن القصيدة فصدرت من مسؤولي حكومة الوحدة المصرية – السورية «الجمهورية العربية المتحدة» تعليمات بمنع بث الأغنية في إذاعات القاهرة ودمشق، وبقي المنع حتى صبيحة الانقلاب على الوحدة بتاريخ 28 أيلول 1961 الذي قام به مأمون الكزبري، مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر حاكم الإقليم الشمالي (سوريا). صبيحة ذلك اليوم بدأت إذاعة دمشق في بث بلاغات انقلاب الانفصال والأناشيد الحماسية، وفي مقدمتها أغنية فيروز «سائليني يا شآم»، وبعد ذلك أصبحت الأغنية الحماسية التي تبث بمناسبة الانقلابات السورية التي تعاقبت في سوريا. ما سبق كان بقلم شربل القنطار المنشور في غير موقع على الشبكة.

أما عندما تبنى الرحابنة أسلوب الخطاب المباشر في أغنيتهم (سافرت القضية) التي رافقت عرض مسرحية الشخص 1964، تمت المقاطعة الرسمية الكاملة للعمل في كل الإذاعات العربية، ولم يبق منها اليوم سوى تسجيلات مهترئة على موقع اليوتيوب. ثم اجتهد بعض الباحثين أن يُلصقوا الغاية السياسية بأغنيات بريئة لكنها فشلت، وكمثال أذكر أغنية (أنا وشادي). ومؤخراً حاول الشاعر “طلال حيدر” أن يعزو نص أغنيته (وحدن بيبقوا) إلى حكاية وطنية/سياسية متعلقة بحدث في سنة محددة، لكن الباحث الموسيقي د. محمود زيباوي نشر تكذيباً لذلك عبر نشره صورة للنص ذاته نشره الشاعر في صحيفة لبنانية قبل ذلك الحدث بسنتين. ثم تلت ذلك أشكال مختلفة من الغناء الذي وُصف أنه “سياسي، مثل أعمال “الشيخ إمام”، كانت مجرد ردود فعل عفوية بسيطة لا ترقى مضامينها إلى فكر سياسي واجتماعي مؤثر تاريخياً كالادعاء بإدخال دمشق التاريخ عبر مجرد خطاب حماسي.
.

*مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا

.

-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى