إضاءاتالعناوين الرئيسية

الأغنية الشعبية الحديثة (3).. مراد داغوم

|| Midline-news || – الوسط

.

قلنا في المقالين السابقين أن “الأغنية الشعبية” ليست من قوالب التأليف العربية، بل هي تصنيف يعتمد على مدى انتشار الأغنية جماهيرياً، وعليه يمكن أن تكون الأغنية المسماة طربية شعبية، والأغنية الراقصة يمكن أن تكون شعبية، ويمكن أن تكون الأغنية طربية راقصة وشعبية في آن (1).

مع الانتشار الواسع للأغنية الغربية بين جيل الشباب في الثمانينات عن طريق الإذاعات الكثيرة وأجهزة التسجيل، تحول نمط الاستماع عند غالبية العامة الشباب إلى محاكمة الأغنية العربية بالقياس لما يسمعونه من مواصفات الأغنية الغربية التي تتميز بالتالي:

1- المدة الزمنية القصيرة، والقصيرة جداً، مقابل ملاحم موسيقية عربية بدأ طولها الزمني يتعارض مع انشغالهم في عصرنا الذي يستهلك غالبية أوقاتهم، بالإضافة إلى ضعف الاهتمام بما يسمى “طرباً” ورندحة غدت مملة بالنسبة لهم.

2- الجملة اللحنية بالغة البساطة، مقابل التعقيد اللحني الذي تميزت به الأغنية العربية التقليدية بين قصيدة وطقطوقة طويلة تتألف من تركيب جمل لحنية متعددة وكثيرة ومختلفة.

3- تنفيذ الأغنية الغربية باستعمال آلات الضغط الإيقاعي الشديد، كالطبل الكبير Bass Drum وكيتار الباص لضبط الأزمنة القوية، والكوردات الرابطة للأزمنة الضعيفة بآلات الكيتار الكهربائي والأرغن الكهربائي اللتان أعطتا الأغنية زخماً صوتياً لا يمكن الوصول إليه بواسطة الآلات التقليدية العربية كالطبلة والرق والقانون والعود والناي.

4- أما العنصر الأكثر أهمية فكان ذلك الضبط الإيقاعي للوزن، والتزام الموسيقا بالموسيقا فقط، وترك دور المطرب للمطرب مما يبرزه أكثر بدون التشويش عليه بمرافقة ببغائية كترجمة حرفية لما يقوله تنفذها كل آلات الفرقة.

5- يمكن أن نضيف إلى ذلك عنصر التوزيع المتناغم (الهارموني) الذي يلون الأغنية لتعطي انطباعاً أكثر جمالاً وإشباعاً للأذن.

يمكن أن نستثني مما سبق الأعمال الرحبانية، وقليلاً جداً من الأغنيات المصرية التي تم تنفيذها بإشراف موزعين غربيين كانوا في مصر تلك الآونة مثل أندريه رايدر (2) الذي وزع الكثير من أغنيات محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهما.

في الثمانينات أيضاً، تخلى الملحنون اللبنانيون عن الأسلوب القديم في التنفيذ الموسيقي واعتمدوا الفصل التام بين ما يغنى وبين ما يصاحب الغناء من توزيع ولوازم، واقتصروا في الموسيقا على المصاحبة الهارمونية مثل كوردات الآلات الغربية كالأورغ والغيتار، وبعض الجمل التوزيعية المرافقة البسيطة بالآلات الوترية أو النحاسية خلف المغنى، وأولوا عناية فائقة لإظهار ضغط الإيقاع فدعموه بآلات الضغط الإيقاعي الغربي مثل الدرامز وغيتار الباص الكهربائي. عندما ظهرت ثلة من المطربين والملحنين الشباب مثل نور الملاح ولإحسان المنذر وملحم بركات وإيلي شويري ومن بعدهما راغب علامة وأحمد دوغان ونهاد طربيه وغسان صليبا وغيرهم بالإضافة إلى الجيل الجديد من الرحابنة ممثلاً بزياد وغسان ومروان وغدي الرحباني.
كانت نتيجة هذا التوجه الجديد أعمالاً تتراوح ما بين الخفيف إلى الطرب ولكن بقالب يسهل على الأذن المعاصرة استساغته، قد يكون معقدَ اللحنِ أو معقدَ الأداءِ أحياناً بحسب الملحن والمطرب، لكن أسلوب إيصاله للمستمع كان لطيفاً مدروساً في أقل حركاته وسكناته وبعيداً عن العشوائية التي كانت سائدة في المرافقة الببغائية مما أشعر المستمع العربي بتغيير صبَّ في صالح هروبه من المعتاد أولاً، وأعطاه احتراماً لأحاسيسه التي كان يفقدها عند تركيزه المفرط ليعيش مع اللحن الأساسي الذي شوهته تلك العشوائية ثانياً. وصلت أعمال هؤلاء إلى درجة عالية من تفضيلات الجماهير فانتشرت بشكل واسع جداً، وصارت من أكثر الأغنيات الشعبية رواجاً.

وهكذا، استمعنا إلى ألحان غاية في الدماثة في حين أن كبار الفنانين المصريين ما زالوا متقوقعين في المدرسة القديمة تنفيذا، وكان كبار نجومهم ما زالوا يغنون حتى في الاستديوهات على أنغام مكتوبة ولكنها منفذة بأسلوب أقرب للارتجال والاعتباط التوزيعي. إلى أن بزغ نجم جديد في مصر قلب الموسيقا العربية رأساً على عقب، وأجبر كبار النجوم على الانصياع لأسلوبه إن كان معه أو بمصاحبة أمثاله الذين تأثروا بأسلوبه.

وكان قدر مصر ألا يكون هذا النجم مصرياً، فالفنان “حميد الشاعري” القادم من ليبيا حمل معه خيالاً من نوع آخر لتنفيذ الموسيقا، خيال معتمد كلياً على “أسلوب” تنفيذ أغاني البوب والروك الغربية، خيال بانت نتائجه الباهرة سريعاً عند الجمهور العربي الذي لم يتخلّ عن نجومه الكبار ولكنه وضعهم في مكانهم وأفسح حيزاً كبيراً لمغنين حتى من الدرجة التاسعة أن يحتلوا مركزاً مرموقاً في قوائم البيع والعرض والطلب.

عند بزوغ فجر التسعينات، كان إنتاج الشاعري تنفيذاً جديداً ودقيقاً أكثر منه توزيعاً موسيقياً بالمعنى الصحيح، وقد تفوق على الموزعين اللبنانيين بدقة التنفيذ وذلك باستغنائه عن العنصر البشري في  ضبط الوزن، والاستعاضة عنه بالعازف الآلي مسبق التلقيم أو ما يسمى بالـ (سيكونسر)، مستعملاً آنذاك “سيكونسر” بدائياً من ثمانية أقنية كان صرعة في أيامه وهو (كورغ-إم 1)- استغني حميدة بهذا الجهاز عن الدرامز الحقيقي وغيتار الباص وكثير من آلات الإيقاع اللاتيني. كما استمد منه أصوات الآلات النحاسية والبيانو التي وظفها للوازم الموسيقية والجمل التوزيعية البسيطة. وقد أعطى استعمال هذا الجهاز للأغنية ثباتاً إيقاعياً مثالياً، فمهما كان العازف ماهرا فلن يكون بقدرة “السيكونسر” على الثبات على وزن واحد من بداية الأغنية حتى آخرها، وهذا ما أعطى أغانيه رونقها المختلف عن العزف الاعتباطي.

شعبياً .. نجحت أغاني حميدة الشاعري على نحو مذهل، بالرغم مما كان ينقصها من الآلات الحية التي لا يمكن تقليدها بالأجهزة الإلكترونية. فهو مثلاً لم يستعمل الكمان الحي أبداً بالرغم مما لهذه الآلة من دور كبير في التوزيع واللوازم الموسيقية واستعاض عنها بالآلات النحاسية وأحياناً بالوتريات الإلكترونية. وإنجازه الرائع كان تلك التركيبة الإيقاعية الفذة التي فرضها على الموسيقا العربية كلها من بعده، والتزم بها كمبدأ كل موزع موسيقي تلا حميدة الشاعري. تألفت تلك التركيبة من الدرامز الغربي مع العديد من آلات البركشن الغربية الأخرى، أضاف إليها المزاهر الصعيدية والدفوف المكتومة والصاجات والتصفيق والباص الكهربائي قوي التأثير. وتميزت أعماله أيضاً بالتزامه وضع الكوردات بآلة الغيتار الكلاسيكي (الأكوستك) وكان يصر على استعمال هذه الآلة في كل أعماله.

ساهم “حمبدة الشاعري” في رفع سوية الأغنية العربية الشعبية، وزيادة انتشارها، واعتمد أسلوبه كل من تلاه من الموزعين مثل: طارق عاكف، وحمادة النادي، وكل بقية الموزعين الغعرب حتى يومنا هذا. استطاع “طارق عاكف” أن يقولب الأغنية الشعبية العربية بأسلوبه معتمداً على نهج حميدة الشاعري فصاغ الأغنيات المصرية والخليجية واللبنانية كما لم يسمعها أحد من قبل.

الهوامش:

(1)- راجع مقالي السابق الأغنية الشعبية الحديثة (2).

(2)- أندريه رايدر Andrea Ryder ، مؤلف وموزع موسيقي من أصل يوناني كان مقيماً في مصر وحصل على جنسيتها عام 1970، ألَّف موسيقا لعديد من الأفلام أشهرها “دعاء الكروان” لفاتن حمامة، “طريق الأبطال” لعماد حمدي وهند رستم، وفيلم “بين الأطلال” لصلاح ذو الفقار وفؤاد المهندس، وفيلم “الضوء الخافت” لأحمد مظهر وسعاد حسني وشويكار، وفيلم “اللقاء الثاني” أيضاً لأحمد مظهر وسعاد حسني، وفيلم “غروب وشروق ” لرشدي أباظة، وغيرها الكثير. كان أيضاً يقوم بالتوزيع الموسيقي لملحنين مصريين وسودانيين، كان يساعدهم حتى في كتابة التدوين الموسيقي لألحانهم. حصل على وسام الاستحقاق في الفنون من الرئيس جمال عبد الناصر. قُتل رايدر في مشاجرة في إحدى شوارع “بيونس ايرس” الأرجنتينية سنة 1971 أثناء إحدى جولاته الفنية.

.

*(مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك