إضاءات

إعادة إنتاج الذاكرة .. تفيد أبو الخير

إعادة إنتاج الذاكرة ..

منذ نحو عشرين عاماً وربما قبل ذلك، انتهت بعض المجتمعات الغربية من تقديم التاريخ الذي يتم تدريس جزء كبير منه في المعاهد المختصة، منذ بدء الخليقة حتى القرن الماضي.

السينما الأمريكية “وافق غيري على ذلك أم عارضه”، قدمت التاريخ المكتوب والمثبت والمتفق عليه، والمشكوك فيه، بشكوكه، من خلال مجموعات متسلسلة من الأفلام، جميع العصور البشرية، من أفلام تسجيلية للعصور ما قبل الإنسان، وكأفلام روائية منذ بدء الخليقة، حسب النظريات العلمية وحسب النظريات الدينينة. وقدمت كل قصص العهد القديم من الكتاب المقدس، ولا أعرف إن كانت قد أغفلت إحداها، من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وزكريا واسحق، وموسى وكل الأنبياء والملوك والدعاة في العهد القديم، وكل قصص وحوادث الإنجيل تم تحويلها إلى أفلام سينمائية، إما متخصصة أو تم ذكرها وتصويرها، وكذلك الكثير من أباطرة روما، روما أولاً ثم القسطنطينية، لأن طريق الحضارة كان باتجاه واحد شرق غرب، والبذور التي تحدث عنها ديورانت المتنقلة بين بابل والإسكندرية عبرت إلى فارس، دون المرور بدمشق أو بغداد، لذلك فإنهم وضعوا بداية العصور الحديثة هو سقوط روما على يد البرابرة الجرمان سنة 1453 ميلادية، وليس مثلاً سقوط بغداد، قبل مئتي عام، وبالتحديد سنة 1258.

ثم عصر الظلام الأوروبي ومذابح الحروب الدينية، ولم يتحرجوا من مشاهد الفتك والقتل التي ملأت السهول حول الدانوب وسفوح الألب، وإنكلترا ومحاكم التفتيش في إسبانيا. واعترفوا من خلال السينما بجرائمهم في إفريقيا والاستعباد والاسترقاق.

كانوا قتلة ومجرمين ولم يكونوا عادلين، لكنهم واجهوا التاريخ وقدموه واعترفوا بما اقترفت أياديهم، وقدموا منجزاتهم العلمية مما وصلوا إليه ومما استفادوا من تجارب الأمم الأخرى وجعلوها متاحة لكل الطلاب والدارسين.

وليس من باب الدفاع عن الغرب، فهذا رأي مبني على قراءة مستمرة للتاريخ والحاضر بعين الطير، التي يمكنها الاستدارة في جميع الزوايا والدوارن بأفق دائرة كاملة. حروب الكشوف الجغرافية وعصر النهضة واليونان وأرمينيا وأمريكا الوسطى واللاتينية والاستعمار الحديث والحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الكورية وأندونيسيا وإفريقيا بعد الاستقلال، والمجاعات وحرب فيتنام وحروب الجاسوسية ومذابح الحروب الأهلية والصراعات الدينية والمذهبية، كل ذلك كان مادة سينمائية لفيلم غربي.

السينما الغربية والأمريكية تحديداً وثقت التاريخ وأخذت مجمله بأفلام تقدم الأحداث بحسب رؤية القارئ الغربي، فكانت مجحفة جداً أغلب الأحيان، وحاولت جاهدة أن تقدم الآخر في أحايين أخرى، بقدر ما يقنعه، وهذا لا يضيرها ولا ينزع من نفوذها ولا من سطوة دولها أن تقدمني كما أريد أنا.

وتصرح المؤسسات الغربية في السينما وعلى ألسنة مسؤوليها القدامى بالكثير من التفاصيل، وتجيب على أسئلة شهيرة، مثلاً :
لماذا أمريكا تدعم إسرائيل؟ لماذا لا تتوقف امريكا عن استخدام أسلوب التفريق العرقي والمذهبي والطائفي في الشرق، وفي آسيا وإفريقيا؟

وهنالك أسئلة أخرى مثل:
لماذا تنهب ثروات الشعوب أمام أعين الشعوب؟ هذا النهب المنتظم سيحتفل بعد سنوات قليلة بمرور مئة عام على الاستعمار واستثمار النفط والغاز والآثار من قبل شركات غربية في الشرق.

كل تلك الأسئلة تقدمها السينما الأمريكة وتجيب عليها بصدق لا نتوقعه، والأفلام بين العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي أجابت عن كل تلك الاسئلة بدون أي حرج، وبإجابات ربما تثلج صدورنا وتفاجئنا بصراحتها. ما الدروس من تلك الإجابات والمعلومات والذكريات التي قدمتها السينما الأمريكية؟:

أولاً: يجب احترام حقائق التاريخ وفهمها والتخلص من سجن المؤامرة إلى ساحة المواجهة، والانفتاح على الحقيقة. فالذاكرة الشعبية والتاريخ يجب أن يكون متاحاً للنقاش مهما بلغت قداسته لأن ذلك يوفر الكثير من السجالات المستمرة التي لا تنتهي، فبالحوار والمداولة والبحث تظهر الحقائق وقبسات المنطق تضيء حجرات كانت مظلمة لمئات السنين، وتتوقف عملية العبث بالعواطف وتجييش الأجيال ضد بعضها باسم الدين أو العقيدة مهما كانت.

ثانياً: إن التطبيق وخوض التجربة يعلمنا الشجاعة التي نفتقرها، وهي مواجهة الأزمات بيد واحدة وهدف جماعي، فنحن كمؤسسة من المؤسسات اتفقنا على المواجهة، ولكننا لم نتفق على خطة، فلكل منا خطته، وجرابه الفارغ الذي سيملؤه في خضم المواجهات، ولأن هذا قد يعني أننا ومنذ البادية لم نكن مؤسسة.

أما أستاذنا الذي فتح عيوننا على كثير مما نجهله، وتعلمنا منه الكثير، المؤرخ العربي الذي كان الأحرص قدر الإمكان على الموضوعية “بحسب رأيي” محمد حسنين هيكل، كتب ذات يوم : إذا كان من الخطأ أن نعتبر التاريخ مؤامرة، فما هو أخطر من ذلك أن نعتبره صدفة. ينتهي الحب والكره والإخلاص والبغض والنفور والشغف والاشمئزاز وكل تلك المشاعر الإنسانية، تنتهي عند أدنى ارتفاع لطائرة مقاتلة تنخفض وترتفع حسب رياح المصالح، أما السياسات فهي كالأقمار الصناعية التي توجهها عن بعد. إعادة إنتاج الذاكرة كمن يخرج من جيبه كل ما فيها من مفاتيح ومناديل وأوراق عتيقة ويقوم بتفحصها أمام عينيه، فيتوقف عن القلق مما مضى. بعد الانتهاء من الذاكرة وتحصين العقل ستنطلق بقوة مسيرة الحضارة بلا خوف من الماضي ولا قلق على الأجيال ولا ذريعة لأي تجييش داخلي أو تدخل خارجي، وما يجري اليوم من مراجعات ومداولات في الفنون السمعبصرية والبرامج التي تعيد قراءة المدونات الحصينة من البحث هو حركة التاريخ الطبيعية، حتى لو تعثرنا وتأخرنا، لكننا عرفنا الطريق.
.

*إعلامي وكاتب .. سوريا

 

لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى