إرث للبكوات!؟ .. د. نهلة عيسى

على وقع الكسوف, وكسوفنا من طويلي الأعمار, وضعت في مواجهة بعضهما بعضاً, راتبي وقوائم الأسعار, وبدأت: أقل سعر لكيلو فاكهة أكثر من ألفين من الليرات, فحمدت الرب أني لست من محبي الفواكه, وأن جيناتي لديها بعد نظر, وتابعت: علبة المتة قرابة الستة آلاف, ولحسن الحظ لست من شاربيها, وعندما وصلت إلى القهوة التي وصلت للأربعين .. يئست, وعندما انتقلت إلى سعر اللحمة .. وجمت, أما عندما تفقدت أسعار الكماليات, الموالح والحلويات .. انجلطت, فرميت الراتب على الكنبة وكأنه مهملات, ووضعت قائمة الأسعار في شنطة يدي وكأنها حجاب, علها تكفيني شر السوق والأسعار النار!؟
لذلك, بما أن الدولار “كريه الاسم” أصبح يا همالالي, والذهب غالي, والبصل والبطاطا والبندورة والمكدوس والدواء والثياب والمدارس والملاعب والسجائر والهواء, سعرها في العلالي, وأمريكا تلعب في منطقتنا دور “الوالي”, قررت على طريقة بديع الزمان الهمذاني, ومقاماته الشهيرة, تذكير من فينا ذهنهم خالي, , حيث لا يليق بمن يحتاجون للتذكير, سوى مقام السخرية المرة, وهم من يساعدون “بنسيانهم والأصح عدم كفاءتهم” على قتلنا, ثم يطالبوننا بجدية, بإبداء الجدية في الموت!.
إقرأ أيضاً .. ما تبقى, إذا تبقى!؟ .. د. نهلة عيسى
تذكيرهم, إن كانوا لا يتذكرون, كيف صبرنا حتى ثمالة الثمالة, عندما اشتعلت بيوتنا بالحرائق, وقلوبنا بالوجع, وحاراتنا وأزقتنا بالقذائف والصواريخ, وسط مزيج هجين من الحقد والكراهية, وكيف صمدنا كالطود بعد اتخاذ القرار بتحويلنا إلى ذبيحة منذورة للعدم, تذكيرهم, أننا تجلدنا وصابرنا, ليقيننا أن ما يحدث لنا, مآله رغم كل الخراب إلى النصر, وكان يقيننا صحيحاً إلى حد كبير, ليس براعة منا, ولا موهبة زرقاء اليمامة, ولكن بسبب اصرارنا على تحدي العيش في ليل التخلي شبه المطلق عنا, ومهارة البقاء وعلى الظهر شاهدة قبر, كخيار وحيد وسط الجحيم الذي سموه ربيعاً عربياً!.
كان يقيننا واقعياً, ولكن ما لم يكن واقعياً هو ما يفعله من يقع على عاتقهم واجب إدارة شؤون عيشنا, في ظل الحرب وتبعات الحرب, وذلك لأن معظم ما يفعلونه يشي بأنهم لا يدرون بالحرب, وإذا دروا يحملوننا أسبابها وليس فقط أعباءها, ويجعلون قراراتهم الذابحة لنا من الوريد إلى الوريد, تبدو وكأنها سياحة في روزنامة الإصلاح ومكافحة الفساد, وفي الحقيقة هي: مجرد فرمانات مرتجلة الصنع, نهايتها ستقود إلى وقوفهم فوق جثثنا “والكاميرات ترصد ملامح شجن تخفي الفرح”, لتلاوة صلاة الشكر .. أنهم قد كافحونا!؟
كان يقيننا صادقاً أننا سننتصر, ولكن من يديرون لعبة عيشنا يحولون صبرنا إلى مسدسات تطال رؤوسنا بدون حياء “كاتم الصوت”, ونحن نعافر الخطى على وقع نشاز خطبهم الرنانة, التي تتحول إلى صديد في آذاننا, وإلى هوان في بيوتنا, وإلى شعارات نغطي بها جثامين أصوات أطفالنا وهي تطالبنا ببعض من أدنى مقومات العيش الكريم!.
إقرأ أيضاً .. أحلامي مقطوعة القدمين!؟ .. د. نهلة عيسى
يقيننا كان صائباً, ولذلك دفعنا تكاليف الحرب علينا, ووقفنا, بل واستشهدنا في ساحات دمشق وريفها وحمص وحلب واللاذقية ودير الزور والرقة ودرعا وادلب والحسكة وطرطوس وتدمر الجريحة كل يوم من أيام السنوات التي فاقت العشر, لأننا آمنا أن ذلك بروفة أخيرة لعرضنا العسكري في احتفال نصرنا القادم, لكننا لم نكن نظن أنه سيؤول بنا الحال إلى تعاطي الخطابات النارية حول الوطن ممن جعلوا الوطن “دار مختار”, يقدم طبيخاً فاسداً, تناوله يشعل في الجوف طوفاناً من النار, ويحرق كل أمل, ونحن الشهود على أن الوفاة طبيعية!.
صبرنا صادق؟ ولكن من يديروننا في الوطن, يجعلون من حالنا ما بعد العشر, أشبه باستبدال طاقم ثعالب جديد بالطاقم القديم, يرث طواقم أسنان الثعالب الهرمة, ويجيد السمسرة في جسد الوطن لمن يبيع, ويقدم المزيد من دمائنا عربون ارتهان للسادة تجار الحرب, وكأننا إرث مطلوب تسليمه باليد في أثناء تبادل السلامات بين “البكوات”!؟
*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter