أبو ماضي والجمال .. مراد داغوم

في طلاسمه اللاأدرية، لم يكن الجمال أساس التساؤلات الحيرى للشاعر إيليا أبو ماضي، لكن استرسال أفكاره تطرَّق بلا عمدٍ، ربما، إلى أصول الوصول إلى منابع الجمال وأسس التعامل مع مواد علم الجمال عبر أبيات من قصيدته الشهيرة “الطلاسم” المعروفة أيضاً باسم (لست أدري).
درسنا في المرحلة الثانوية بعض أبيات هذه القصيدة، واقتصر خيار واضعي الكتب على الأبيات التي تتناول موضوع الوجود وغاية الخلق وحدود خيارات المخلوق. بينما تضمنت بقية الأبيات أفكاراً فلسفية أخرى في مواضيع مختلفة عما اختاره مؤلفو الكتاب المدرسي.
إقرأ أيضاً .. الأغنية والسياسة
1- نسبية الجمال بحسب المتاح
يعاين المرء ما حوله، فتعتاد عيناه كروية بعض الأشكال واستطالة بعضها، يعتاد ألواناً بعينها للأشياء المحيطة، وترتاح أذناه لسماع بعض الأصوات وينفر من بعضها الآخر، وهكذا يرى ما اعتاد عليه جميلاً. في هذا المعنى يقول كولينغوود: (هل يكمن الجمال في لون السماء الأزرق؟ أم أن أعيننا اعتادت أن تراه جميلاً في الأزرق؟ فلو أنَّه كان وردياً لما تغيرت نظرة العين إليه جمالياً).
وفي هذا المعنى قال أبو ماضي:
لَذَّةٌ عِندِيَ أَن أَسمَعَ تَغريدَ البَلابِل
وَحَفيفَ الوَرَقِ الأَخضَرِ أَو هَمسَ الجَداوِل
وَأَرى الأَنجُمَ في الظَلماءِ تَبدو كَالمَشاعِل
أَتُرى مِنها أَمِ اللَذَّةُ مِنّي
لَستُ أَدري
إقرأ أيضاً .. رياضة وفن
2- نسبية الجمال والقبح بحسب الطبيعة
لطالما كانت الطبيعة مصدر إلهام للفنانين والشعراء، الطبيعة بكل تناقضاتها، سواء بين التوافق والانسجام أو بين المتضادات الموجودة قسراً فيها. لا يد للإنسان بكل ذلك، فهو مضطر لتناول الجرعات الجمالية التي تفرضها عليه، لا حرية له سوى في اعتباراته لكل منها، وبالطبع هي اعتبارات متغيرة لكل فرد.
المعنى ذاته ورد في القصيدة المعنية كما يلي:
إِنَّ هَذا الغَيثَ يَهمي حينَ يَهمي مُكرَها
وَزُهورُ الأَرضِ تُفشي مُجبَراتٍ عِطرَها
لا تَطيقُ الأَرضُ تَخفي شَوكَها أَو زَهرَها
لا تَسَل أَيَّهُما أَشهى وَأَبهى
لَستُ أَدري
3- نسبية الجمال بحسب التفضيلات الشخصية
تغيرت نظرة المرء للجمال عبر العصور، وانعكس ذلك على الأعمال الفنية التي أنجزها الإنسان في كل عصر. فقد رأى الإغريق جمال المرأة في رشاقتها، أما في العصور الوسطى فأصبحت المرأة الممتلئة قياساً للجمال، نرى ذلك واضحاً في أعمال دافنشي وغيره.
أما الثابت فهو ذلك الاختلاف في الرضى عن التفاصيل من فرد لآخر. هذا الاختلاف الذي لم يتبيّن ضرورته كثيرون في أيامنا في سوريا تحديداً، حيث ينظر المرء هنا لمن يخالفه ذوقه الجمالي على أنّه لا يحسن الحكم على الجماليات في حين اتفق دارسو هذا العلم على أنه غير قياسي ولا ثابت، بل هو تابع للذوق الشخصي لكل فرد.
وردت تلك الفكرة في أبيات (الطلاسم) بصورة جميلة وعادلة عندما نأى بنفسه عن خلافات القوم حول الحُسن والقبح، واكتفى بالمراقبة تاركاً هموم الأحكام لأصحابها. يقول:
رُبَّ قُبحٍ عِندَ زَيدٍ هُوَ حُسنٌ عِندَ بَكرِ
فَهُما ضِدّانِ فيه وَهو وَهمٌ عِندَ عَمرِ
فَمَنِ الصادِقُ فيما يَدَّعيهِ لَيتَ شِعري
وَلِماذا لَيسَ لِلحُسنِ قِياسٌ؟
لَستُ أَدري
أتساءل بدوري: هل للمقاطع التي ذكرتها أهمية في فقه حكم القيمة الجمالي؟ هل يفيد تدريسها في توجيه نشء جديد إلى صواب الأحكام؟ لماذا تم إهمالها في المناهج؟ ولماذا تطرق منهاج الفلسفة إلى مشكلاتها المتعددة لتثقيف الطلاب مع إهمال علم الجمال نهائياً وهو فرع مهم من هذه المادة؟.
*مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا