“آل ساسون” ذات يومٍ غابر (ترجمة حيّان الغربي)

يروي فيه حكاية صعود هذه الأسرة وأفولها بعيداً عن أسواق السمك المتداعية على الرصيف البحري لمدينة مومباي الهندية، وإذا ما تخطّينا أيضاً واجهة مدينة شنغهاي البحرية (ذا بوند)، سيتبين لنا أن قلّةً هم من سمعوا بآل ساسون، على الرغم من أنهم، ذات يوم مضى، قد أسسوا ما يجوز لنا أن ندعوه حقيقةً بأول إمبراطورية تجارية عالمية عابرة للقوميات.في أواسط القرن التاسع عشر تمتّع آل ساسون بالنفوذ الأوسع ما بين عائلات الأعمال في القارة الأسيوية. ولعل أفول هذه الأسرة يطلق صفّارة الإنذار لجميع أباطرة المال الحالمين بنقل نفوذهم وثراوتهم وتخليدها عن طريق خلفهم.
بدأت القصّة مع ديفيد ساسون، الذي كانت أسرته تشكّل ركيزةً أساسية في المجتمع اليهودي البغداديّ، وهو مجتمعٌ يعود تاريخه إلى حقبة السبي البابليّ. شأنه شأن أسلافه من قبله، عمل ديفيد أميناً لبيت المال لدى الحكاّم المماليك في المنطقة. ولعلّنا قد نعدم روايةً دقيقة للأسباب الحقيقية التي دعته إلى الفرار من داوود باشا، الحاكم الذي عرف بقسوته وبطشه، بَيْدَ أن حفيده، إدوارد ساسون، يروي أنه “لا شكّ أنه لم يعد يطيق الحرارة المرتفعة في المنطقة”.
وهكذا، وطأت قدما ديفيد أرض مومباي لأول مرّة في العام 1832. وإنه لبوسعنا أن نتتبع المسار اللافت الذي انتهجته هذه العائلة إذ نعلم أن إدوارد كان عضوا في البرلمان الإنجليزي في حقبة الملك إدوارد، فلم تكن مومباي إلا مجرّد محطة انطلاق أولى. آنذاك، كانت الثورة الصناعية تسير على قدمٍ وساق، وقد شكّلت المدينة صورةً مصغّرةً عن المزاوجة البريطانية ما بين التجارة والإمبراطورية، وهي قد خضعت لإدارة شركة الهند الشرقية، مثلها مثل معظم الأراضي والمدن الهندية الأخرى. ولربما يعدّ المجتمع في مومباي متسامحاً إذا ما أخذنا في الحسبان المعايير العنصرية السائدة في تلك الحقبة. وقد لاقى ذوو المشاريع التجارية ترحيباً كبيراً بصرف النظر عن منابتهم، وسرعان ما نشأت أواصر علاقةٍ طيبةٍ بين أسرة جام سيتجي تاتا، أول الصناعيين الهنود، من جهة، وآل ساسون من جهةٍ ثانية.
لم يشكّك أحد في استقامة ديفيد، فعلاوةً على حسّه التجاري المقتصد والحذر، اشتهر الرجل بالإحسان وبتبنّي ممارسات تقدّمية مثل تعليم البنات، غير أن أهمّ ما اتسم به هو حفاظه على علاقات وثيقة العرى مع أفراد أسرته، وقد رزق بثمانية أبناء وستة بنات من زواجين، وكلّف أبناءه بإدارة المنافذ التجارية للعائلة التي امتدت من يوكوهاما حتى لندن، مروراً بالساحل الصيني وكالكوتا والقاهرة. تواصل أفراد العائلة فيما بينهم من خلال الرسائل، التي كانوا يكتبونها باللهجة اليهودية البغدادية.
وليس مؤلف “تجار عالميون” سليلاً مباشراً لعائلة ساسون هذه، على الرغم من تطابق اسم العائلة، بيد أنه يجيد قراءة هذه اللهجة، إذ إنه من مواليد مدينة بغداد، وهو يحدثنا من خلال هذه الرسائل عن اهتمام ديفيد بأبنائه وسلوكه الصارم في الوقت عينه، إذ إنه حين كان يوفد أحدهم إلى منطقةٍ نائية، كان يفرض عليه أن يراسله لما لا يقلّ عن مرّةٍ واحدةٍ في الأسبوع. وفي حين ركبت الأسرة أعلى الموجات الإمبراطورية، فإن حرب الأفيون على وجه التحديد أعطت زخماً كبيراً لآل ساسون لمراكمة ثروتهم. فحين نجحت بريطانيا في فرض تجارة الأفيون الهندي في الصين في العام 1839، تحوّل آل ساسون إلى تجارة المخدرات وترويجها في الصين، التي عادوا منها بالشاي الصيني وشحنوه إلى بريطانيا مع القطن الهندي. ناهيك عن أن رياح الحرب الأهلية الأمريكية قد جاءت بما تشتهي سفن آل ساسون أيضاً، فقد أرسل هؤلاء إلى معامل لانكشاير قطنهم المجني من مزارع الكونفدرالية. وتبنّت الأسرة التكنولوجيا الجديدة، إذ كانوا من أوائل مستخدمي التلغراف، كما قاموا بتنويع نشاطهم التجاري من خلال الانخراط في قطاعات الشحن والتأمين، ويمكن القول بأنهم يُعتبرون المنافس الرئيس الذي فرض سطوته المطلقة في تلك الآونة: “كان آل ساسون يقفون خلف تجارة الفضة والذهب والحرير والصمغ والتوابل والأفيون والقطن والصوف والقمح وكل ما كان يشحن عبر البحر أو البرّ أو أنها جميعها كانت تحمل العلامة التجارية لشركة ساسون وشركاه”.
توفي ساسون الأب في العام 1864 لتندلع بين الأخوة منافسةٌ انتهت لصالح الابن الطموح، إلياس. وانتقل عدد من سليلي الأسرة إلى بريطانيا، التي اشتروا فيها منازل جميلةً وأقاموا علاقة صداقةٍ وطيدةٍ مع أمير ويلز، كما أقاموا التحالفات من خلال الزواج، بما في ذلك عقد الزيجات مع أفراد من آل روتشيلد، الذين كان آل ساسون يعتبرونهم فيما سبق من محدثي النعمة وإن كانوا كريمي المحتد على الصعيد الاجتماعي. فشكّل الانتقال إلى بريطانياً عبئاً ثقيلاً على القدرات الاقتصادية للأسرة، وهذه المرّة بدأت الصراعات تلعب دوراً عكسياً ضدهم، فقد شهدت تجارة القطن انحساراً هائلاً في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وبقي لآل ساسون تواجدٌ أخير في شنغهاي خلال ثلاثينيات القرن العشرين؛ من خلال فيكتور، الفتى اللعوب والذكي، الذي كان مديراً لفندق كاثاي (سنجد المزيد من التفاصيل حول هذا الجزء من القصة في كتاب جوناثان كوفمان: “آخر ملوك شنغهاي”). ولكن في نهاية المطاف، أتت الحرب أيضاً على مشروع فيكتور في شنغهاي، بدءاً بالغزو الياباني ومن ثم الحرب الأهلية الصينية التي رجحت كفّة الشيوعيين. أما ما تبقى من إمبراطورية آل ساسون فقد أصبح تحت سيطرة مسؤولين تنفيذيين من خارج أفراد العائلة. وفي حين أدخل آل روتشيلد وآل تاتا موظفين تنفيذيين من خارج إطار العائلة، إلا أنهم أبقوا هؤلاء الموظفين تحت إشرافهم بخلاف ما فعل آل ساسون. وهكذا تلاشى آخر أثر لأعمالهم ومشاريعهم التجارية حين أعلن بنك إنجلترا عن تجريد آخر المديرين من خارج أفراد الأسرة من الأهلية.
– (عن صحيفة الإكونومست)
*شاعر ومترجم- سوريا
-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews