يغضبه أن يُصنّف الأول بين شعراء سورية! هاني نديم: من سبقوني وأبناء جيلي والشباب الهائل الذي ظهر في سنواتنا الكالحة هم رقم واحد
مؤسف أن يقدم الشاعر نفسه فارساً ويكون في الحياة غير ذلك!

|| Midline-news || – الوسط …
إعداد وحوار: روعة يونس
.
أذكر بشاشة وغبطة الإعلامي زاهي وهبي –وهو شاعر جميل- حين استضاف في برنامجه “بيت القصيد” أحد أجمل خلق الله شعراً وخُلقاً وإنسانية وقرباً إلى الناس، الشاعر الفذّ هاني نديم بحبوح.
لأنني الآن أفهم مشاعره وأتفهم اعتزازه. فباختصار: نحن لا نلتقي دائماً بشاعر حقيقي، شاعر بالروح والقلب والضمير وليس فقط الكلمة.
في سياق الحوار مع شاعرنا هاني نديم نفى أن يكون متواضعاً، ودرء عن نفسه أن يكون متزلفاً، ليضعني أنا –ربما دون قصد- في خانة من يجامل أو ينحاز!
بينما، إن كان ثمة انحياز من الجمهور -أنا منهم- نحوه.. فهو انحياز نحو الذائقة التي تصطفي الإبداع وتغربل الشعر بمنخل له ثقب واحد أضيق من خرم إبرة.
وعليه.. تفضلوا إلى حوار “الوسط” مع أحد أهم شعراء سورية، هاني نديم الذي لا يقدم قصيدة عظيمة ويمضي، بل يقدم شعراً عظيماً ويستمر. مع أمنياتنا له بعمر طويل جميل بخاصة أن اليوم يصادف ذكرى ميلاده..
“شاعر يسوّق للحب”
ما قبل الشعر، لنكشف السر، كيف يجتمع الناس على محبتك -وأنا هنا لا أحرج ولا أجرح تواضعك- بخاصة أننا في زمن لم يعد يحب المرء نفسه؟
-من المستحيل الإجماع على أي شيء في هذه الحياة، مثلي مثل الناس لدي من يناصبني العداء ولدي من لا يحبني بكل تأكيد، لنقل أنني محبوب ولدي قبول ورضا لدى الناس في المجمل، وذلك يعود لأنني حقاً أحبّ الناس جداً وأقدم لهم ما استطعت من عون دون أي انتظار لمقابل وأسوّق للحب مجازاً وفعلاً. كما أنني أفهم الطبائع البشرية، هشاشتهم التي تشبه هشاشتي، وبالتالي؛ أصدّق قوّتهم المزعومة وأبتعد عن نفوذهم المنطور.. لا غايات كثيرة لي أصطدم لأجلها مع الآخر. كما أنني حريص كل الحرص على أن لا أوظف سلاحي الأقوى -وأعني هنا معارفي ولغتي- في إهانة أحد أو انتقاصه والاستعلاء عليه. بل أنا لا أحضرها معي في كل مكان كما يفعل المزهو بما اكتسب.
ولأنني قصدتُ في سؤالي السابق، محبتك ذاتياً، محبة الإنسان هاني نديم. أسأل: لربما بتنا نحب الشاعر الأصدق والأقرب لشعره نحب كيف يكتب شعره، وكيف يكتب نفسه؟
-أفهم أن الإبداع هي حالة بحد ذاتها قد تتضمن من المعاني ما لا يجب تفصيله كثوب على مقاس مبدعه، ولكن من وجهة نظر شخصية، فإنه من المؤسف جداً لدي أن يقدم لي الشاعر نفسه على أنه فارس ويكون في الحياة غير ذلك، لقد هزء مني كمحب للشعر وخانني وخان قصيدته، أولم يقتل المتنبي بيتٌ من شعره؟ المتنبي الذي يوصف بالانتهازي والوصولي حينما عايره أحد الصبية بأنه هاربٌ وجبان وهو من يقول: “الخيل والليل والبيداء تعرفني والرمح والسيف والقرطاس والقلم” فعاد وواجه طالبه ومات ولم يخن شعره.
“بداية الدرب”
بلغ شغفك بالشعر قبل بلوغك سن الرشد –عفواً- حدّ إصدارك أول ديوان شعر قبل سن الثامنة عشر؟
-كنت أظن وقتها أنني قادر على كتابة الشعر ونشره لمجرّد أنني قرأت بعض أمهات كتب الأدب وكتبت رسائل حبٍ لأصحابي، وفعلتها منطلقاً من رعونةٍ وحمق، إلا أن هذا الفعل ورّطني بالجمال لاحقاً بكل معنى الكلمة. واستقر الحال على النشر والإصدار.
لمن لم يتح له الإطلاع على ديوانك “الدم قراطية” أليس غريباً أن ينشغل يافع بفكرة الديمقراطية؟ أم أردت أن تعكس ما أنتَ به وما ستكون عليه مستقبلاً؟
– في حقيقة الأمر أن كل المجموعة كانت قائمة على تلك “الفذلكات” اللغوية والانزياحات التي تشير إلى ضحالة الجوهر. كان مجرد عنوان اكتشفت لاحقاً أنه مُستخدم حتى بهذا الانزياح واللفظ، وكانت المجموعة ككرّاس الطالب وكشكول البقال، فيه الشعر والسرد والقص. ولكني حقاً أحبه وأدين له بكل ما جاء لاحقاً.
“كونشرتو الدواوين”
ألا زلت ترى أن قصيدة النثر هي الفراغ! بعد كل هذا الفراغ الذي سدّه نثرك؟
-الفراغ هنا ليس بمعناه السلبي بل الشكلاني، فقد اتكأت على النحت الذي يقوم على طرفي الكتلة والفراغ، فكان “العمود الشعري” هو الكتلة بينما النثر بحرّيته واتساعه هو الفراغ، متخلصاً تماماً من المفاضلة النوعية بل مفسراً نص بنص، وقصيدة بأخرى.
“متحف الوحشة” يبدو عنواناً موحشاً لكتاب عن الحب والمرأة. لا أقصد جوهر ومتن الديوان، بل العنوان! لمَ كان نقيض الحب والمرأة رمز الأُلفة؟
-أعتمد في كل دواويني على وحدة المحور فـ (سور الله العظيم، عن سوريا في تلك المحنة، نحات الريح) تصورات لغوية بين النثر والشعر نص يفسر الآخر حسب وجهة نظره واستيعابه اللغوي. في “متحف الوحشة” بعنوانه الفرعي “خارطة تقريبية للسائرين على طريق الهيام” افترضت رحلة عاشق من الفناء إلى الفناء.. من نص “قيامة الركب” حتى “وٍرْد الوصول” يدور العاشق في حلقة مفرغة يعود فيها من حيثما بدأ أو لا يعود!. أعتقد أنه لا وصول لمحب ولا نهاية مرجوة لمن يسير في طريق الهيام، فمن اسمه: الهيام هو الضياع بشكل أو بآخر.
أرى -وأظنني على صواب- أن مشروعك الشعري إنساني. ليس فقط من منطلق الانشغال بالإنسان وآلامه وآماله، بل بتقرب لغتك منه وجلوسها إليه دون حواجز لغوية متعالية وغرائبية. فالنخبة في مشروعك هي الإنسان.
-لا أتعمد التبسيط، أنا رجل بسيط حقاً، أحب البساطة في كل شيء بعدما فشلت فشلاً ذريعاً في التكلف اللغوي والحياتي!. إذ أنني سلكت كغيري مسلك البلاغة وركبت مركب الغموض والألفاظ المعجمية والمستحدثة وابتكرت صروفاً جديدة ومارست الكثير من “الأحاييل” وخزعبلات اللغة؛ اللغة ذات السطوة والتمكّن من “صرع” مستخدمها وسوْق خاطبها إلى البحر “كالنداهة” وإغراقه هناك وهو ظمآن، اللغة التي فتنتي فتنة المجذوب بداية حياتي حتى كانت هي الغاية وليست الوسيلة، السجع والبديع والطباق والجناس والتقعّر والتنطع والرطانة والحشو والتفذلك والترف المبالغ به والذي لا طائل منه حتى فهمت لاحقاً أن البلاغة تعني الوضوح والسطوع والرهافة القاتلة كضربة سيف.
“الإعلام والمحافل!”
ما حققته في الشعر لم يحققه شاعر سوري. أعرف ثمة شعراء كثر. أنا أتحدث عن إجماع، عن ذائقات.. ألا تنوي تقديم المزيد للمتلقي وللمكتبة العربية؟
-في الحقيقة أشكر لك “انحيازك” هذا وإن كنت حتى أنا لا أقرّك، لا تواضعاً ولا تزلفاً والله، إنما يتعلق حضوري القوي -إن صحّ- بمتعلقات أخرى لا تعني الشعر كثيراً، فعلى سبيل المثال قد يكون منصبي المهني الذي يخولني أن أكون في جلّ المحافل الكبرى، قدرتي على السفر والتواصل، الإعلام وغيره من الأمور. على أية حال فأنا مستمر في مشروعي الشعري كحامل لبقية إنتاجي.
“تلال النصوص العظيمة”
إنتاجك لا يقتصر على الشعر، لديك أعمال مسرحية وتلفزيونية وإذاعية وغنائية.. لكن بروزك وبلوغك الرقم 1 شعرياً في سورية (أعرفك لا تحب الأرقام والتصنيفات- إنما هذا أنت وهكذا يرون ترتيبك) هل يرضيك ويكفيك، أم يجعلك تعتب على نفسك وتبحث عن موضع القصور في باقي المجالات؟
-لا لست رقم 1، حتى أنا أغضبني هذا الترتيب، سوريا قارة من المبدعين حسبما وصف أنسي الحاج، لا تختصر بنتاجي وإن بدا أنه كثيف أو جيد. الشعر ليس في متتالية حسابية ولا يعتمد على الأرقام أبداً. يجب أن أوضح وجهة نظري لو سمحت لي؛ لم أفكر يوماً بقضية المتن والهامش، الأول والثاني، في الشعر تحديداً مثلما الطعام، لا يوجد هذا ألذ أو أطيب، هنالك مزاج طابق مزاج، وحالة توافقت مع حال، تزامن وتناسب ولدائن وخامات. مرات كثيرة أحب شاعرة شابة أكثر من الماغوط، وأحياناً أحب قوّال عتابا أكثر من السياب وهكذا. أنا أرى أنه هنالك نص عظيم في وقت يشبهه، قصيدة رائعة فسّرت موقفاً غامضاً ما، اليوم في سوريا نقف على تلال من النصوص العظيمة، من سبقوني ومن هم من جيلي، وهذا الشباب الهائل الذي خرج في هذه السنوات الكالحة، كل هؤلاء بشكل أو بآخر، رقم واحد في الشعر.
أما من ناحية الرضا والاطمئنان، فأنا دوماً غير راض عما أقوم به، أعمل في يومي 16 ساعةً وهذا يعرفه الأقربون والأبعدون، أعاني من تكلّس في فقرات ظهري بسبب الصحافة الملعونة والعمل الدائم، ورغم كل هذا أشعر أنني أهدر وقتي. لدي أربعة كتب عالقة اليوم بين يدي تحتاج شهر تفرغ، حتى تخرج بشكلها النهائي ولا أجد لها هذا الوقت بسبب عملي الذي لا ينقضي. الصحافة غول كبير.. جميل ومهيب ولكنه غول.
“الاتكاء على المشاعر”
لا حاجة لنا بانتظار” يوم الحب” كي نسألك عن الحب في حياتك. حب المرأة، الإنسان، البلاد، الشعر، الثقافة، الحرية، الابتكار.
-أنا كائن مجبول بالحب إلى أقصاه، عليّ أن أحب لأمشي وأن أحب لآكل وأتكلم وأقوم ببقية الأفعال، لا يمكنني أن أتحرّك دون أن أحبّ. وأؤكد هنا أنني ألوذ بالحبّ بوصفه إنزيم دفاعي، إن التوغّل في المشاعر والإنصات لما تريد يجعلها تنمو بشكل عبقري قد يغنيك عن التفكير الذي غالباً ما يكون قاصراً مهما بدا أنه مصيب. إن الإتكاء على المشاعر وتدريبها بالخذلان مرة وبالنصر مرة أخرى يجعل الأحاسيس أشد سطوة وأكثر قدرة على فهم ما يجري. كما أنه مسوغ لطيف لأخطائنا التي لن نكفّ عنها.
أيهما يوجع أكثر: الحب أم الشعر؟ لا تقل لي أنهما لا يوجعان!
-الحب يوجع أكثر، إنه ألمٌ على الدوام، لكنه ألم الحياة والسيرورة والمضي قدماً، إنه التفّجع الدائم بأحبابنا سواء ظلوا أم رحلوا، اللهفة وهي تهدر كشلال على كل شيء ولا بد لنا من الاستمرار في العطاء وبذل الماء، كل الماء، ولكن ألف حب ولا نصف أوقية ضغينة. فالكراهية حملٌ وإن بدا أنه مريح يعزل صاحبه عن كل جمال.
” ذكرى ميلاد الشاعر”
في ذكرى يوم ميلادك، واسبوع عيد الحب.. ماذا تقول شعراً؟
كنت أقول: “أحبك” وأنا أعني أكرهك!.
كنت أقول: “أكرهك” وأنا أعني أن كل تلك الحقول والفراشات والغزلان والقصائد وحشائش عمري المنهوب والبئر شرقيّ القرية، شمال طفولتي، كتبي التي قرأت، والطرقات التي مشيت، جمالك المرعب والعصافير التي تلاحقك، حذائك الأحمر وحذائي البني، مظلتك الوردية والمطر الذي عليها..
كل هذا..
كله .. تحت أمرك، وفوق احتمالي
كنت أقول:
“دعيني وشأني” وأنا أقصد أنك لم تفهمي يوماً كم هذا أليم، أقصد: أن يكون شأنك ليس لك!
وأن أنفاسك ليست لك، وأن القمصان والطرقات والسجائر والأحزان والأشجار كلها كلها ليست لك!
وأنه ليس لك إلا أن تقولي لكل هذه الأشياء:
دعيني وشأني
كنت أقول:
“أحبك” وأنا أعني كل هذه القصائد والخيبات والحرقات والطيور والأغاني و”سفرطاس” السفر و”خرطوش” بنادق الصيد و”سيباط” القرية والمصاطب والمراكب والشعر والشمس…
والصمت…