الديك الفصيحالعناوين الرئيسية

وطن خْطَيْ .. غسان أديب المعلم ..

 

“بلد خْطَيْ” .. الوصف الذي كانت تُكنّى به مدينة حمص قلب البلاد، وكانت تُسمّى أيضاً بِـ “أمّ الفقير”.

و “الخْطَيْ” باللهجة الحُمصيّة تعني المسكين، أو شديد الفقر، أو الدرويش وقليل الحيلة..

كانت الناس في هذه المدينة عندما ترى مسكيناً عابراً أو حتى أحد قاطنيها من الفقراء تقول عنه “خطي” ساعدوه .. فيقوم أهل الخير بمساعدته مهما كانت أوضاعه سيئة، وهذا أحد أسباب تسميتها بأمّ الفقير، وهناك سبب ثانٍ مردّه لأسعار السلع الرخيصة قياساً بباقي المحافظات، وقد يعود ذلك لموقعها في وسط البلاد وتنوّع محاصيلها الزراعيّة وكثرة منشآتها الصناعيّة وملامسة أطرافها لثلاثة بلدان عربيّة.

عادت بي الذاكرة إلى هذا المصطلح بالذات لأذكر أمراً قد يكون سمةً عامّة عند السوريّين، كأن يحصل اليافعين من الطبقة المتوسّطة ومادون على ملابس جديدة في العيد، فينبّههم ذويهم إلى ضرورة عدم التفاخر أو التباهي أمام الأشدّ فقراً، خصوصاً أولئك الأطفال “الخطيْ” الذين لم تسنح لهم الفرصة، أو تسمح لهم الظروف بشراء ثياب العيد.

أتذكّر أخلاق تلك الفترة رغم صعوبتها، وأقارنها بأخلاق المسؤولين الأن وعنجيّتهم وخلوّ نفوسهم من الخجل، وندرة ضمائرهم، في الوقت الذي يعيش أغلبنا على النقيض، بما أنّ معظم السوريّين قد أضحوا من المساكين قليلي الحيلة أمام هكذا سلطة.

الأمر لم يقف عند التباهي والتفاخر بموضوع الثياب، بل أصبحت الوقاحة سمة عند هؤلاء سواءً في المظاهر أو السلوك المُشين واستغباء الشعب بالأقوال والأفعال، فلا يكاد يمضي يوم واحد دون هذه الاستعراضات.

قبل عدّة أيّامٍ أُفتتح مطعمٌ فاخر بخمسة أو عشرة نجوم لأحد المسؤولين، وأثار أمر الافتتاح وإعلانات الوجبات وأسعارها الفلكيّة، وكثرة الحجوزات، سخرية السوريّين في العموم!!، فقد ضربت مسامعهم أسماء وجبات جديدة يُخيل للسامع المُتلقّي بأنها أسماء لاعبين في الفرق الأوروبيّة!!.

وسبّبت أسعار الوجبات حالةً أو شعوراً بالانقسام الطبقيّ الحاد والواضح والفاضح بين السوريّين بأغلبيّتهم وبين زبائن المطعم المُقتدرين القادرين على دفع ثمن الوجبات التي تعادل في قيمتها كوجبة فرديّة قيمة راتب شهريّ لموظّف القطاع العام، وقد تتجاوز القيمة راتب القطاع الخاص أيضاً!!

يُضاف إلى المشاعر المُحتقنة بالأساس ذلك اليوم الذي غابت به الكهرباء عن سوريا بأكملها!، وكأن الأمر “بروفة” لتعتيم كامل مُستقبلاً مع إعلان العجز!، فهل يُعقل أن تكون البلاد ذات المئة وخمسة وثمانين ألف كيلومتر مرتبطة بقاطعٍ كهربائيّ واحد في تابلو وحيد!؟..

ينبري بعدها السيد رئيس مجلس الوزراء بالقول بأنّ بابه مفتوح لأي مواطن!!، فهل كان مُغلقاٌ؟، وهل هنالك نصّ دستوريّ يحتّم عليه سدّ مسامعه وغيره من المسؤولين أمام طلبات وهموم وأوجاع الناس؟.

بعد هذا التصريح “الغبيّ المقصود”، يُصدرُ قراراً أغبى وأعتى بمصادرة وإتلاف الدراجات الناريّة التي أصبحت وسيلة التنقّل الوحيدة للفقراء من مدنيّين وعسكريّين!. وقد يكون القرار الذي يليه أمراً بإطلاق النار على كلّ فقيرٍ تسوّل له نفسه المشي في الشارع!!.

أمّا آخر أحداث هذا الأسبوع الحزين كسابقيه فهو استشهاد كوكبة من رجال الجيش في كمين مكرّر، وبالطبع، فإنّ جميع الشهداء من طبقة واحدة وهي طبقة الفقراء الغالبة حجماً، والمغلوب على أمرها قهراً.

في النهاية،حذّرنا ونحذّر من هذا الانقسام الطبقيّ الحادّ والواضح والفاضح بين مكوّنات غالبيّة الشعب، وأقليّة المسؤولين وتجّار الأزمات ولاعقي أحذيتهم، فالأمر لم يعد فارقاً ماديّاً فقط، بل فارقاً أخلاقيّاً مصحوباً بالأقوال والأفعال، وسوء السلوك وإنعدام الضمير!، وأصبحت البلاد بغالبيّة شعبها “وطن خْطَيْ”.

فهل من أهل خير يمدّون له يد العون!؟..

أم أنّه سيفعلها ويقطع دابر الفاسدين الخونة بنفسه؟..

 

*كاتب وروائي من سوريا – دمشق

 

صفحتنا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى