هل يمكن استيراد الدولة ؟
د. عقيل محفوض
هل يمكن النظر إلى الدولة بوصفها “تقنية سياسية” انتقلت كغيرها من “التقانات” من موطنها أو منشأها الأصلي في أوروبا إلى أنحاء العالم، من خلال التصدير – الاستيراد، والمثاقفة وتأثير المنوال، وحتى قوة الدبابات والجيوش الغازية والمستعمرة، وحاجة المجتمعات الطرفية؟ وهل وقعت موقعاً حسناً في مجتمعات “التلقي”، وإلى أي حد كان “الانتقال” أو “الاستيراد-التصدير” ناجحاً، وكيف كان التفاعل معه، وما الذي انتقل فعلاً، هل فكرة الدولة وعقلها (وروحها) أم هيكلياتها وأدواتها ومسمياتها فحسب، أم هو خليط من كل ذلك؟أسئلة كثيرة مطروحة على علماء السياسة في عالم اليوم، والواقع أنها مطروحة منذ الاحتكاك النشط والصادم بين الغرب وباقي العالم قبل عدة قرون؛ ومنها السؤال حول الأسباب التي جعلت من الدولة الشكل المستقر والوحيد تقريباً لـ”النظام السياسي” في العالم، وأنه لم تعد ثمة مناطق أو جهات أو أشخاص أو كائنات أو موارد إلخ، خارج النطاق الفعلي (أو الرمزي) لسيادة دولة أو وحدة دولية بعينها؟ يتناول الكاتب الفرنسي من أصل إيراني “برتران بادي” في كتابه “الدولة المستوردة: غربنة النظام السياسي”، سؤال الدولة في عالم اليوم، وكيف أصبحت الشكل شبه النهائي للتطور السياسي في العالم، وأن نماذجها تفرض نفسها باعتبارها “كونية بالبداهة”. ويرصد ديناميات ذلك “الانتقال” وتجلّياته المختلفة، وكيف أنه لم يخرج عن هيمنة الغرب، وأن قيام الدولة في جهات العالم المختلفة كان “متمفصلاً” معها أو مرتبطاً بها في “عالمها” الأصلي، وأن الدولة في الغرب كانت مراقباً ومتتبعاً لما قام من دول وأشباه دول ونظم حكم حول العالم، ممسكة بتقنيات وأسرار “صناعتها”. يتناول برتران بادي في كتابه موضوع القراءة، ولديه كتب أخرى على قدر كبير من الأهمية، أفكاراً ذات أولوية وإلحاح في حقل العلوم السياسية ودراسات الدولة والعولمة والعلاقة بين الغرب والعالم، يعرضها في إطار سردية مركبة، متوسلاً طرائق ومناهج ومفاهيم علم اجتماع السياسة والعلاقات الدولية ودراسات التنمية ودراسات الدولة وغيرها، في دراسة مؤلف من ثلاثة أجزاء، متضمنة ستة فصول، الجزء الأول حول “تصدير النماذج السياسية” وفيه فصلان هما: منهج التبعية، وطموح الدولة إلى الكونية، والجزء الثاني حول “استيراد النماذج السياسية” وفيه فصلان هما: المستوردون واستراتيجياتهم، والمنتجات المستوردة، والجزء الثالث حول “كوننة ناقصة وانحراف خلاق” وفيه فصلان هما اختلالات داخلية، واختلالات دولية. ينطلق المؤلف من مقولة رئيسة تتمثل بأن انتقال تقنيات الدولة من المركز الأوروبي إلى أنحاء العالم حدث بفعل ديناميتين رئيستين: تلقائية، وقصدية؛ تلقائية بمعنى التأثير والمثاقفة والمنوال أو النموذج، وقصدية بمعنى التأثير المباشر والمخطط له من قبل قوى المركز، سواء أكان ذلك عن طريق الجيوش والاستعمار أو عن طريق السياسة والتجارة، أو دوافع الأطراف للتشكل دولاً أو أشباه دول.يتحدث بادي عن أنماط من التقنيات الدولتية المستوردة مثل الأحزاب والنظم الحزبية والقانونية والتشريعية، وحتى فكرة “العقد الاجتماعي”، التي يرى أنها عززت ديناميات السلطة أو التسلط، وأنها لم تفضِ إلى منطق “العقد الاجتماعي” بالمعنى الحداثي. ويلاحظ بادي أن استيراد تقنيات الدولة أصاب قدراً متفاوتاً من النجاح بين “مستورِد” وآخر. ويذكر الكثير من الأمثلة حول العالم، من أوروبا إلى الولايات المتحدة إلى آسيا وأفريقيا وأميركيا اللاتينية، من نظم حكم ورياسات وإمارات وممالك، وأحزاب وانقلابات وثورات، وأفكار وايديولوجيات وخطب ومقولات، وشبكات وفواعل عابرة للدول، وتجارب عديدة، الناجح منها والمتعثر، وأنماط التأثير- التأثر بين عوالم السياسية اليوم.ويتحدث الكاتب عن نقل تصدير – استيراد هياكل وآليات الضبط السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي والأمني، ولعل أكثر ما جرى تصديره-استيراده هو الأسلحة والتقنيات العسكرية ونظم الجيوش والقوات المسلحة ومؤسسات الأمن والاستخبارات، بالإضافة إلى نظم الإدارة الحكومية والقوانين الجنائية والعقوبات وأدواتها، وأدوات الضبط والتحكم، والاتصال، والتنصت، وحتى نظم السجون وأدوات التعذيب. مع ذلك، يجد بادي أن ثمة ما يصعب “استيراده”، وأن الكثير من تقنيات السياسة، وعلى رأسها الدولة، لم يقع موقعاً حسناً في المجتمعات والعوالم “الوافد” إليها، وخاصة الأحزاب التي نشأت في بيئات اجتماعية وثقافية وسياسية مختلفة، وأنها لم تصب نجاحاً كبيراً في بيآتها الجديدة. ولا يتعلق الأمر بالفروق بين عوالم النشأة وعوالم الاستيراد أو التلقي، وإنما بديناميات هيمنة وتغلغل واختراق، تعزز وجود أنماط من نظم الحكم والحكام قوَّامين على الدولة نفسها. ومن ثم فإن الدولة لم تعد هي أساس السياسة والعمل السياسي، ولا كمال المعقولية، بتعبير هيغل. وهكذا تبدو “الدولة المستورَدَة” كما لو أنها “تنين أعرج” كما يقول ت. كالاجي، كناية عن حجم الاختلال بين الرغبة في الفعل، وبين الإنجاز أو الحصيلة. ويتحدث بادي عن “الدولة-صندوق القمامة”، وهو تعبير عن ارتهان نظم الحكم في دول طرفية لإرادة ومصالح فواعل سياسية واقتصادية في المراكز بحيث تُحَوِّل جزءاً من أراضيها إلى مكب للنفايات المشعة أو غيرها، ويمكن أن تعطيها مثلاً امتيازات كبيرة، لقاء عمولات مادية أو غير مادية، وربما لقاء دعم أو ضمانات حماية للنظام السياسي أو لشخص الحاكم نفسه. يخلص بادي إلى أن تجربة الدولة المستوردة، أدت إلى دول أو أشباه دول، بحكم العادة وحكم التصنيفات الدولية ومعايير الاعتراف في القانون الدولي، ولو أن الملاحظة التجريبية تقضي ببطلان ذلك، إذ ليس من الضروري أن تكون الدولة تحت الاحتلال لكي يمكن إثبات أنها تابعة أو مخترقة أو مسلوبة الإرادة، مثلما أن وجود رئيس أو ملك أو أمير، وحكومة وممثليات ديلوماسية وعلم ونشيد وطني وأحزاب ومقعد في الأمم المتحدة، ليس دليلاً على وجود دولة بمعنى الكلمة.وهكذا فإن نقل أو استيراد التقانات السياسية الخاصة بالدولة لم يفضٍ إلى تبيئة للمفاهيم والأطر الخاصة بها، كما أنه أدى في الكثير من الأحيان إلى فقدان أو اختلال المعنى، من خلال إقامة بنى سياسية أو دولتية منفصلة عن واقع مجتمعات الأطراف وعن موروثها السياسي، ومن ثم فإن الدولة لم تصبح تامة وناضجة ومستقرة تُظَلِّل أو تحكم السياسة والمنافسات السياسية، بل أصبحت هي نفسها محلاً وموضوعاً للصراع السياسي.ويرى بادي أن ثمة اختلالاً في المعنى على مستوى النظام العالمي، لأن نقل أو تصدير الدولة أو إقامتها بالقوة، لم يكن منسجماً دائماً مع إرادة مجتمعات الأطراف، ذلك أن فكرة الدولة-الأمة لم تجلب الكثير من المنافع حول العالم، بل على العكس، فقد أدت إلى عدم استقرار أو حروب مواجهات في الدول أو المجتمعات المتعددة إثنياً ودينياً الخ.وهكذا فقد أدى “استيراد” الدولة من قبل مجتمعات الأطراف أو “تصديرها” وربما “فرضها” من قبل المركز الأوروبي، إلى نمطين رئيسين من “الاختلال”، الأول دخل المجتمعات أو العوالم المستورِدة للدولة أو بالأحرى لتقنياتها، والثاني على مستوى النظام الدولي، من خلال اختلال أو فقدان التوازن في العلاقات الدولية، وبروز عوامل صراع بين المراكز-الأطراف، الشمال-الجنوب، الغرب-الشرق، الخ وبروز تيارات مناهضة لـ”الدولة” بوصفها صنيعة “الغرب” أو “الاستعمار”، ومفروضة من قِبله، أو “غريبة” عن المدارك والبنى التاريخية والجمعية الخاصة بالسلطة والقوة وولاية الأمر الخ في مجتمعات ذات طبيعة انقسامية قوية.وهكذا فإن الدولة المستورَدَة بقيت “غريبة” عن بيئاتها وعوالمها الجديدة، وقامت عليها أو فيها نظم حكم ورياسات أشبه بـ”وكالات” للعلاقة بين مجتمعات وفواعل الأطراف وبين المراكز العالمية، حيث لم تنشأ دولة فعلية أو مستقلة أو قادرة على العمل خارج قوالب وأنماط وديناميات التغلغل والتأثير الأوربي أو الغربي. وأن “المركز” طوّر ديناميات تحكُّم وسيطرة أكثر عمقاً وتأثيراً، ومنها الهيمنة (بالمعنى الذي يورده غرامشي) و”استهواء السياسة” -كما يقول بادي- أي التأثير وسلب الإرادة بالإغراء والإغواء، وصولاً إلى إقامة أنماط من التفاعلات الرمزية والمادية .
*باحث سوري.
- موقع الميادين
- الكتاب: الدولة المستوردة: غربنة النظام السياسي .
- الكاتب: برتران بادي – المترجم: شوقي الدويهي .
- الناشر: دار الفارابي، 447 ص .