هل كشف النقاب عن أصل الاعتقاد الإنساني بالشر أخيراً؟ (ترجمة حيّان الغربي)
هل المرض هو أصل جميع الشرور؟ ما هو منشأ المفهوم الروحاني للشر؟ لعلنا نجد تفسيراً ممكناً في المساعي التي بذلها الناس لفهم الأمراض السارية والتصدّي لها. نشأت تلك الممارسة الخاصة بإرجاع الأمراض وأعراضها إلى قوى الشر الغامضة ضمن المنظومات الإيمانية التقليدية التي سادت ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، حين برزت نظرية الجراثيم وفقاً لما كتبه عدد من العلماء في دراسةٍ حديثة. فقد كشفت نظرية الجراثيم عن الأسباب المجهرية للأمراض لتحلّ أخيراً محلّ الأرواح الشريرة.مع ذلك، اكتشف الباحثون مؤخراً أن الربط بين القناعات الدينية حول الخير والشر من جهة والإصابة بالأمراض المعدية من جهةٍ ثانية ما زال قائماً في يومنا هذا، إذ تبيَّن لهم أن سكّان الأقاليم الجغرافية التي تشهد نسباً مرتفعةً من الانتشار المرضي أظهروا قناعات أكثر رسوخاً بعلاقة هذه الأمراض بمسببي الشرور، مثل الشياطين والساحرات. ومن الناحية التاريخية، لجأت الكثير من الحضارات في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا الشمالية إلى القوى ما فوق الطبيعية لتفسير الأمراض وصياغة الردود عليها.
ولعل الزخم القوي الذي اكتسبته حملة مطاردة الساحرات في أوروبا القرون الوسطى حين كان “الموت الأسود” يكتسح القارة على حدّ تعبير الباحثين هو خير مثالٍ على ذلك. وقد كان لهذه المقاربة جانبٌ عملي، إذ كان يتم عزل المرضى، ممن يظهر عليهم التأثير المزعوم للشر، وتجنّبهم أو حتى قتلهم لحماية الآخرين من انتشار العوامل الممرضة حسب الدراسة. وبدورها، عززت الأجواء التي شاعت فيها الأمراض المعدية الأيديولوجيات المحافظة من حيث اتباع ممارساتٍ صارمة للطقوس والشعائر المشتركة وتحاشي الغرباء. فطالما أن الاعتقاد الروحاني بوجود الشر كان أكثر شيوعاً في المناطق التي احتضنت نسباً عالية من مسببات المرض “إذاً، هذا يعني أنه، من المنظور التاريخي، قد تطورت هذه المعتقدات بغاية تفسير تأثيرات مسببات الأمراض” كما ورد في الرسالة الالكترونية الموجهة إلى لايف ساينس من قبل أحد كبار مؤلفي الدراسة، بروك باستيان، البروفيسور المشارك مع كلية العلوم النفسية في جامعة ملبورن، أستراليا. يردف باستيان: “هذا يشرّع الباب أمام فهمنا لنشوء الدين كمنظومة إيمانية تطوّرت لتفسّر التهديدات أو الأحداث الطبيعية”.
الساحرات، والشياطين، والعين الشريرة
لوضع تلك الفرضية على طاولة الاختبار، نفّذ الباحثون عمليات استقصاء كما لجؤوا إلى المعلومات المؤرشفة لتقييم مستويات الاعتقاد بوجود الشر. شملت الاستقصاءات ما يربو على 3,000 طالب جامعي في 28 بلداً، وسئل المشاركون فيما إذا كان لديهم اعتقادٌ قويٌّ بالعين الشريرة (بتعبيرٍ آخر الشخص القادر على إلقاء اللعنات والشعوذات من خلال نظرةٍ خبيثةٍ من عينه”، والشعوذات، والقوى الشيطانية وغيرها من القوى الشريرة. وقد تم جمع المعلومات المؤرشفة بمشاركة 58,000 شخصاً من 50 بلداً ما بين العامين 1995 و1998، ووُجه لهم السؤال فيما إذا كانوا يعتقدون بوجود الشيطان. وقد نوّه العلماء في عمليات التقييم التي أجروها إلى الطبقة الاجتماعية ومستوى التعليم والتوجه السياسي وقوة الممارسات الدينية لكل من المشاركين. كما ألقى الباحثون نظرةً على المعلومات التاريخية العالمية بشأن الأمراض السارية وعقدوا المقارنة بين تلك الأنماط وبين الاتجاهات الجغرافية في المعتقدات الروحانية فيما يخص الشر.وهكذا تبيّن لهم أن سكّان المناطق التي شهدت انتشار الأمراض المعدية على مرّ التاريخ “أظهروا ميلاً أكبر للاعتقاد بوجود الشيطان والقوى الخبيثة للعين الشريرة والساحرات اللواتي يشكّلن وسيلة عبور للشر”، وذلك حسبما جاء في الدراسة التي نشرت على الشبكة العنكبوتية في 30 تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2019 في مجلة: “بروسيدينغز اوف ذا رويال سوسايتي بي”. وقد أورد الباحثون: “لقد أمطنا اللثام عن دليل متواصل بأن انتشار العوامل الممرضة على مرّ التاريخ ارتبط بميل مطردٍ للاعتقاد بوجود قوىً شريرةٍ فعّالةٍ في العالم”.
حتى في يومنا هذا، في ضوء وجود التفسيرات العلمية للأمراض بالفعل “فإن هذا المنحى في التفكير يبقى واضحاً لدى العديد من المجتمعات المعاصرة التي تُنسب فيها العلل الجسمانية أحياناً إلى الإرادة الإلهية أو الفعل الشيطاني، وبالتالي تتواصل العلاجات الروحانية” على حدّ تعبير مؤلفي الدراسة.
.
*شاعر ومترجم – سوريا
-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews