نزيه أبو عفش .. ناسك في زمن العبودية .. يزيد جرجوس ..

نزيه أبو عفش .. ناسك في زمن العبودية ..
عند وصولنا إلى مشارف بيته في أطراف بلدة مرمريتا، وهو صاحب مكانة مرموقة مثل بيته الجميل، يستحق أن يحكى عن “مشارفه”.. وجدناه يستقبلنا في وسط الشارع كأنه شيخ من شيوخ العرب الأقحاح، أو كمعذب من سويداء سلطان باشا الأطرش، يأبى إلا أن يلاقيك في منتصف الطريق .. فالطريق عنده تبدأ بخطوك أنت، أو ربما بخطوه هو نحوك تحديداً.
ولكنك بعد الاستقبال غير المشروط وغير المتكلف، تبدأ تكتشف صورة أخرى عندما تقودك الدرب إلى داخل حرم منزله، أو إلى قلبه، فأنت يبدو لك أنك تدخل صومعة ناسك، رتَّبها بعرق سنينه، وبناها برفقِ فنانٍ تشكيلي غير تقليدي لبنةً لبنة، حتى صارت كالمزار .. تتناثر فيها باتزان لوحات مكتملة التشكيل من رسمه هو، فيما تشخص في الحديقة أحجار كانت على وشك أن تصبح أعمالا تشكيلية هي الأخرى، ولكنها علقت على عمود صغير هنا، وفوق صخرة صغيرة هناك، وكأنها مازالت بانتظار كف نحاتها أو معوله.
الحديقة المضطربة التي تتنازعها صفات الترتيب والفوضى، بظلالها الوارفة تقول لك بقلب صانعها الذي تشبهه “أهلاً” وتكتفي من الكلام بمختصره الشديد أحياناً، وتعوض نقصه بإيماءات الجسد والعينين، مترعةً بدموع تترقرق بين الفينة والأخرى على شباك مقلتيه.. فهي مثله وتكمل رسالته.. نزيه أبو عفش.

لم يكن ذلك إلا البداية.. هناك داخل بيته وعلى متكئ من كرسي قبالة المطبخ السخي، تجد تلك السترة العسكرية “خاكية” اللون جميلة المعنى، وكأنها تنبئك بمواربةٍ خجولة عن انحياز صاحبها لشطرٍ كنت تتوسم له أن يكون فيه.. فهو يعرف الفصل شعوريا بين الغَث وبين السمين.. تقوده المناقبية إلى موقعٍ صحيح في خريطة العالم الجيوسياسي، وهو المُلهم على كل حال.
أما هديته الأثمن ومن على مائدته الأجمل، فكانت صلاة يرنمها ترنيماً، يجود فيها، يسكنها بكل جوارحه وكأنه يهرب من واقع أشبعه بالخذلان، فترتجف ساقه اليسرى بعنف المتوتر في حضرة الشعر الذي كان هو بنفسه قد نزفه في يومٍ غير قريب من الأيام.. ولكنه عندما يعود له وفي كل مرة تجده يتلوه وكأنه يفتح جرحه بيديه المكبلتين بالإبداع، ويرمي فيه ما شاء من الملح ويصرخ من وجع.. “آه”.
يلتزم طقسه الصوفي في قراءة الشعر، يذهب إلى منصات غريبة ويطل منها بإطلالات مختلفة فيها من المواربة والتصريح تلاقح يخبرك بأن الشعر ليس هو ما كنت تعرفه بالضبط.. يصمت طويلاً، حيث لا تُريد، دون ترددٍ، فهو يقودك ولا يُقاد برغبتك، فأنت بالنسبة له لست جمهوراً، ولكنك مالك القلب وشريك الحرف والنزف الشديد.. والطبيب العاشق لا يسأل المرضى إعجابهم بإيقاع إبرته وهو يخيط جراحهم، ولكن يجبرهم على تلمس الأثر..
ثم ماذا..!؟، لم يكن ذلك كل شيء، فلكم أن تتخيلوا أنني كنت شخصاً من شخوص مسرحيةٍ إنسانية جزلى.. جالساً وإلى يميني فرحان بلبل، وإلى يساري حسن بعيني، وأمامي نزيه أبو عفش.. يقول ما يقول ويرمي على طاولتي قصيدة أخرى أدهشتني لموريس قبق، الراحل الذي لم يُكمِل، ولكنه اكتمل..
حتى تغادر صومعة نزيه أبو عفش يلزمك أن تستدعي وعودك لنفسك بأنك سوف تعود إليها مجدداً.. ثم ترحل بطمأنينة يشاغب على جنباتها القلق قائلاً لها.. “هكذا تصيرين أجمل”.
*كاتب من سوريا