رأي

من جحيم الفقراء تُصنع جنّة الأغنياء .. نجيب البكوشي ..

|| Midline-news || – الوسط …

 

ما إن بدأت الحرب الكونيّة الثانية في وضع أوزارها، حتّى شرع معسكر المنتصرين من الحلفاء بزعامة الولايات المتّحدة الأمريكيّة في تركيز أسس نظام نقدي عالمي جديد، فكانت ولادة توأم صندوق النقد والبنك الدوليين (FMI, BM)، إثر عقد المؤتمر النقدي والمالي في “بريتون وودز” Bretton-Woods من ولاية “نيوهامبشر” New Hampshire الأمريكية، بمشاركة أكثر من أربعين دولة، تحت إشراف الأمم المتّحدة سنة 1944.

تاريخ ومكان ولادة هاتين المؤسستين الماليتين ليس بمحض الصدفة، فالولايات المتّحدة الأمريكيّة المنتصرة في الحرب أصبحت القوّة الأكبر في العالم عسكريّا وإقتصاديّا، ولحماية مصالحها لن تعتمد على ترسانتها العسكريّة فحسب بل سوف تؤسّس لمنظومة ماليّة عالميّة تدور حول “الورقة الخضراء”. صندوق النقد والبنك الدوليين أو “توأم بريتون وودز” كما سمّاهما عالم الإقتصاد الإنجليزي “كاينز” سوف يكونان رأس حربة الدولار الأمريكي، الّذي تحوّل إلى عملة إحتياط عالميّة مرتبطة في قيمتها بقيمة الذهب. والّذي تملك الولايات المتّحدة وقتئذ وإلى اليوم أكبر رصيد منه في العالم، وتمّ بمقتضى إتّفاقيّة “بريتون وودز” تثبيت سعر الصرف للدولار الأمريكي عند سعر 35 دولارا لأوقية الذهب.

منذ التأسيس كانت نوايا الهيمنة الأمريكيّة على المؤسّستين الماليتين جليّة، حيث عمدت إلى تحديد موارد صندوق النقد الدولي بحوالي 8 مليار دولار، تكون الحصّة الأكبر فيها لصالحها وقدّرت ب 2,5 مليار دولار وتقدّر القوّة التصويتيّة للدولة العضو بحجم حصّتها وتتوزّع اليوم كالآتي؛ الولايات المتّحدة أوّلا واليابان ثانيا وألمانيا ثالثا وفرنسا رابعا والمملكة المتّحدة خامسا والصين سادسا وإيطاليا سابعا والمملكة العربية السعوديّة ثامنا…ووفق “عرف دبلوماسي” تكون رئاسة الصندوق من نصيب أوروبا الغربية، ورئاسة البنك من نصيب الولايات المتّحدة، ولا يمكن لدول الجنوب النامية بأي حال من الأحوال تبوّؤ هذين المنصبين.

علاقة صندوق النقد والبنك الدولين مع دول العالم تتحدّد وفق علاقة هذه الأخيرة بالغرب عموما وبالولايات المتّحدة الأمريكيّة خصوصا، فالقروض والمساعدات تعطى فقط للأنظمة الصديقة للبيت الأبيض والموالية للسياسة الخارجيّة الأمريكيّة حتّى وإن كانت أبشع الدكتاتوريات وأشدّها فسادا ماليّا، وعلى سبيل الذكر لا الحصر مساندة المؤسّستين الماليتين لنظام سوهارتو في أندونيسيا، وماركوس في الفلبين، والشاه في إيران، وتشاوشيسكو في رومانيا، ونظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا…

وصل الأمر بصندوق النقد والبنك الدوليين إلى حدود مطالبة بعض الدول الّتي نالت إستقلالها في منتصف القرن الماضي، بتسديد ديون الدول الّتي إستعمرتها، مثلما هوّ الحال لدولة الكونغو/ الزايير، الّتي طُلب منها تسديد ديون المستعمر البلجيكي بتعلّة أن الأموال الّتي إقترضها من المؤسستين الماليتين كانت بغرض إنشاء مشاريع تنمية بالكونغو. أمّا الأنظمة التّي كانت على خلاف مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة فقد رفض صندوق النقد والبنك الدوليين مساعدتها أو مدّها بأي قروض، مثل نظام محمّد مصدّق في إيران، وسلفادور ألندي في الشيلي، كما رفضا تمويل مشروع السد العالي بمصر في عهد جمال عبد الناصر.

بعد أكثر من سبعين عاما على إتفاقيّة “برايتون وودز” ونشأة صندوق النقد والبنك الدوليين لا زالت المنظومة النقديّة العالميّة في خدمة مصالح دول الشمال الغني، في حين تتخبّط معظم دول الجنوب في وحل المديونيّة نتيجة إملاءات المؤسّسات الماليّة العالميّة، وغياب الحوكمة الرشيدة وإستشراء ظاهرة الفساد. تقارير الخبراء تشير إلى أنّ 10% فقط من سكّان العالم يمتلكون حوالي 83% من الثروة العالميّة، و1,2 مليار نسمة يعيشون بأقلّ من 1,25 دولار في اليوم فقط، الهوّة أصبحت سحيقة بين شمال غني وجنوب فقير يفرض عليه تطبيق وصفات نيوليبراليّة متوحّشة تزيد الفقراء فقرا والأغنياء غنى.

فقراء الجنوب لم يبق لهم سوى قوارب الموت أو الإقتتال في ما بينهم وخوض حروب طائفيّة وعرقيّة عبثيّة لتزدهر صناعة الأسلحة في دول المركز الّتي ما فتئت تندّد بفظاعة الجرائم المرتكبة في تلك البلدان والحال أنّها هيّ التي سوّقت أداة الجريمة، فمن جحيم الفقراء تُصنع جنّة الأغنياء كما قال فيكتور هيغو منذ أكثر من مائة عام. كلّ الدول الّتي خضعت لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، والّتي تقضي بوقف النفقات العامّة والتفويت في القطاع العام وتحرير الأسواق وتجميد الأجور والزيادة في الأسعار، كان مصيرها الإنهيار الإقتصادي والإنفجارات الإجتماعيّة الدوريّة.

تأمّلوا في ما حدث بالأرجنتين في ديسمبر 2001 نتيجة تطبيقها لسبع برامج تقشفيّة مملاة من طرف صندوق النقد الدولي، في ظرف ثلاثة سنوات فقط بين 1998 و2001، ممّا جعل 57 ٪ من الأرجنتينيين يعيشون تحت خطّ الفقر، وإرتفاع نسبة التضخّم المالي إلى مستويات قياسيّة، أدّى بالدولة إلى حالة الإفلاس، أنظروا كذلك إلى ما حدث باليونان آخر مخابر صندوق النقد والبنك الدوليين رغم أنّها تنتمي لمنظومة اليورو.

ما يمكن إستنتاجه أنّ المؤسّسات الماليَة العالميّة ليست بجمعيات خيريّة، بل هيّ أدوات تنفيذ أجندات لوبيات ماليّة دوليّة وكلّ الوصفات الّتي قدّمتها للبلدان النامية للخروج من أزماتها الإقتصاديّة كانت كارثيّة على جميع المستويات، وكان هدفها إستعمال المديونيّة كسلاح ناجع للتدخّل في الشؤون الداخليّة لهذه البلدان.

نجيب البكوشي، باحث وكاتب تونسي.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى