“مجرّد فوارق” .. غسان أديب المعلم

“ليس هناك ماهو أخطر في بناء مجتمعٍ يشعر فيه معظم الناس بأنّ لا دورَ لهم فيه” مارتن لوثر كينج ..
فما هي الحال لو كانت أغلبيّة الناس تشعر بأنّ وظيفتها هي العبودية والطاعة والخدمة الشاقّة مدى الحياة وصولاً للشهادة والتضحية بالأرواح في سبيل سعادة وبقاء وسيطرة طغمة قليلة لا تُذكر رقميّاً أمام هذه الغالبيّة!؟.
وما هي الحال لو كانت هذه الغالبيّة تعرف قضيّتها وأبعادها وأعدائها وترى ولاة أمرها في موقفٍ يتماهون فيه مع أعداء هذا الوطن وبالتالي أعداء هذه الغالبيّة!؟.
ولا أعتقد أنّ ثمّة سوريّ على طول البلاد وعرضها وحتى خارجها ممن لا يشعر بالغبن والخذلان باستثناء الطبقة الزاحفة المستفيدة من السلطات وتتناغم مع هرطقتها وكذبها وتفرح لانتصاراتها وتخوّن من يعاديها.
فالأمور أصبحت واضحة تماماً، وقد يستطيع حاجز الخوف أن يحجبها في كلمات الأحاديث أو الكتابات والمقالات والتعليقات وحتى التلميحات، لكنّه لن يستطيع محوها من عيون الناس وأفئدتها، ولا يستطيع أحد إنكارها بالمنطق رغم أننا في زمن اللامنطق العالميّ..
والأمر هنا ليس جدلاً ماركسيّاً لو تحدّثنا عن فوارق طبقية وعن الصراع الطبقي الذي فنّدته النظرية السياسية والاقتصادية للمادّية الجدليّة، بل هي فكرة تاريخيّة ونتائجها محتومة ومحسومة سلفاً، فالتاريخ بمجمله عبارة عن طبقات متناثرة تستغل إحداها الأخرى، وأنّ معظم تاريخ صراع الطبقات، كان بين الحرّ والعبد، والنبيل والعاميّ، والمعلم والصانع، والحاكم والمحكوم، والمُستبد والمُضطهد، وكانت الفوارق في تعارضٍ دائم وفي حربٍ مستمرة، حرب كانت تنتهي دائماً بنتيجة واحدة، إمّا بانقلاب ثوريّ يشمل المجتمع بأسره أو بانهيار الطبقتين معاً وتلاشي الجميع مع كيانهم السياسيّ والذي سيؤدّي بالطبع للتآكل الجعرافيّ لجسد البلاد..
هذه الفوارق مع الشعور العام المُرافق بالغبن نتيجة التباين الاجتماعي والفوارق الطبقية بين الفقراء والأغنياء، وبين الفقر المدقع في جانب وتراكم الثروات في جانب آخر، يرافقه أيضاً بذات المستوى تباينٌ آخر مرهون بحالة الاستفادة من موقع المسؤولية ومن يلفّ لفَّهم من المرتزقة، ليصبح التباين في الفكر، وصولاً للإمساك بزمام الوطنيّة، والتمسّك بالقضايا والمبادئ لمن يمتلك المال، وبين من يتذمّر ويشتكي ويعاني الأمريّن، والذي يصنّف في خانة العمالة والغباء.
هذه الفوارق لن تمرّ مرور الكرام كحديثٍ عابر عن الصراع الطبقيّ بين بعض المثقّفين المُجتمعين في مقهى أو حفلة شاي، بل إنّها تحفر كما مرارة الأيام التي تذوقها غالبيّة الناس وتتراكم غلّاً وحقداً على من يسرقون الأوطان وقوت الفقراء بل ويسرقون حتى أحلامهم..
فالمجتمعات التي يقوم جزءٌ صغيرٌ منها على امتلاك القرار والسيطرة على مقدّرات البلاد في مقابل الجزء الأكبر الذي يكابد جرّاء غياب التكافل الاجتماعي والأمن الغذائي والروحيّ والهدوء النفسيّ، هي مجتمعات لا دوام لها بسبب الاضطرابات والهلع وما يتسبّب به الخوف في غياب الأمن والاستقرار لاحقاً، ومن ثم العداء والصراع من أجل البقاء.
فمن المبادئ المسلّم بها في نظرية الأمن هو تماسك أفراد المجتمع، وكلّما كانوا مترابطين وموحدين كلما كانت حياتهم أكثر أمناً والعكس هو الصحيح..
وعليه فإنّ مهمة السلطات المختلفة والمتعددة تكمن في تكثيف محاولاتها لسدّ الذرائع، أو على الأقل تقليل الهوّة بين فئتي المجتمع وتحقيق المساواة بينهم في الحقوق والواجبات مع اليقين بأن تحقيق الهدفين ربما يكونان من المعجزات لأن المصالح الشخصية والنزوات الداخلية كثيراً ما تؤدي الى حدوث الخلاف والاختلاف، ومن جانب آخر فإن تحقيق المساواة أمر في غاية الصعوبة لأن الطبيعة الانسانية جعلت منه رئيساً ومرؤوس، قادة وجنود، وهذا التنوّع البشريّ أمر طبيعي لا غبار عليه، لكن الأمر يختلف عندما نتحدث عن الفارق الطبقي بين أفراد المجتمع الواحد بهذا الشكل..
فأن تصل بطاقات حفلات أعياد الميلاد أو غيرها من المناسبات لأرقامٍ فلكيّة لو فكّر بعض أفراد الغالبيّة بالحضور، وأن تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي عن أعراس وحفلات لساسة ومسؤولين بين بعضهم البعض داخل البلاد وخارجها أيضاً لأرقام فلكيّة في التكلفة هي الأخرى، في حين اكتواء غالبيّة الناس بالغلاء وضعف القدرة الشرائية لجلب أبسط الحاجات من مقوّمات البقاء، أكرّر مقوّمات البقاء على قيد الحياة وليس الحياة، فلا أعتقد أنّها ستمرّ أيضاً دون الحفر أكثر فأكثر في قلوب الناس، وأيضاً وأيضاً فإنّ الأمر والفارق لايقتصر على الحفلات والترفيه، فالفوارق أضحت في كلّ ميدان، فهناك من يتعالج في أرقى المستشفيات في الداخل أو في الخارج، بينما تئنّ الغالبيّة من غلاء الدواء وزيارة المداوي، وكذلك الأمر في التعليم، بين مدارس أولاد الذوات وبعثات التفوّق لاحقاً، وبين وطلاب المدارس العامّة حيث الصفوف المزدحمة والبرد والكآبة والكراسي المكسّرة.
وكذلك الأمر بتوزيع الكهرباء والمياه والمحروقات والكثير الكثير غيرها من الفوارق مابين وبين..
وكلّها وازديادها ستؤدّي إلى أمرٍ واحد، إلى أن يكون المجتمع غير قادر على لعب دوره في بناء الانسانية، وأن يكون مهزوزاً أمام التحديات وتنعدم مناعته ضد الاخطار الداخلية والخارجية، والأهم نسيان قضيّته وبأنّ سوريا وطنه.
فالفارق الطبقي يؤثّر بشكلٍ كبير على أمن الدول، لأن الفرد الذي يشعر بانتهاك حقوقه وعدم مساواته مع الآخرين سيكون فريسة سهلة بل نقطة انطلاق الأعداء واستعماله كأداة، أو أن يكون نفسه مصدراً لزعزعة الأمن لأن ولاءه وحبه للوطن الذي حرمه من أبسط حقوقه يكاد ينعدم، أو يكون ناقصاً، وإن كان قولنا لا ينطبق على الجميع لذا فان من واجب السلطات أن تعمل على تقليل الفوارق بين أبناء الشعب وفق الخطط الشاملة لجميع مناحي الحياة لكي لا يشعر الفرد بالغبن وبإهماله واستغبائه، وقد اختبرنا السلطات فصولاً وسنوات، ولا من مستجيب لنداءات واستغاثات هذا الشعب الجبّار، وليس بالإمكان أكثر مما كان، وأن نذكّر بالنتيجة المحتومة المحسومة التي أوردها التاريخ، والتاريخ يقسو على من لا يحفظ دروسه جيّداً..
هي فوارق .. مجرّد فوارق ..
إقرأ أيضاً .. “لا توجد منطقة وسطى” ما بين الجنّة والنار
إقرأ أيضاً .. “حبل الكذب .. طويل” ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter