رأي

ما يجب أن يكون الحلقة المقبلة!؟ .. د. نهلة عيسى

أغادر دونما أسف, وهم الأخبار, أغادر حلمي بأن الحرب قاب جرحين أو أدنى من نهايتها, أغادر الحقائق التلفزيونية إلى حقيقة الواقع, حيث المتاح والممكن, منتصرة بذلك للواقعي, ولما هو إنساني على ما هو فكري ومجرد, وللحركة ولو بوجع على الثابت, ثبات أهرامات الجيزة في موقعها منذ سبعة آلاف عام.

أغادر الحلم ليس يأساً, ولكن لكي لا يتحول حلمي (وحلمكم) إلى تابوت فرعوني يحمل إضافة لجسدي, طعامي, وشرابي, وثيابي, وأقلامي, وأوراقي, ووهم الخلود, و العودة إلى الحياة ولو بعد ملايين السنين, أنا التي بالكاد عشت هذه السنين.

أغادره لأنني أعتقد أن للعنب مواسم, وأن العناقيد التي لا تؤكل في حينها تتحول إلى خل أو زبيب, وأن الغيمة لا معنى لها ولا قيمة إن لم تغدوا مطراً, وأن الحلم البائت مثل الخبز البائت قد يُشبع ولكنه لا يُمتع.

أغادر الأخبار وفي القلب والذاكرة تفاصيل وتفاصيل, وجغرافيا كل الأماكن التي عبرتها, والجروح التي ربحتها, و أزعم أني وأنكم مع كل شهيد ربحنا جرحاً جديداً, وعبرنا جثث كل التجارب التي اكتملت وبقايا التي لم تكتمل, وصور من أحببناهم, ومن فقدناهم, وتماثيل مهشمة لأنبياء وقديسين كنا قد طوبناهم قبل أن نقابلهم, ثم هشمناهم عندما ارتكبنا جناية معرفتهم!.

في الذاكرة التفاصيل, ولكن الذاكرة لا تعني أبدآ الاجترار, ولا التكرار, واستحضار أرواح الأجداد, بل تعني المضي قدماً في طريق أقل وعورة, وأكثر وضوحاً بالاستناد إلى وجع التجربة, و تعني أنه قد حان الوقت للمكلومين مثلنا, لأن يكون لهم وجه, وملامح, وبصمات,  وجواز سفر يعبرون به الحدود إلى الوطن الذي يأملونه و يتمنونه, وهي حدود ستبقى مغلقة منيعة, إذا استمرينا (نحن الموجوعون حتى الثمالة) بالتخندق خلف متاريس الصمت, والانتظار الممل (بدعوى انتظار شفاء الوطن), بدل فتحها على اتساعها, و نزع كاميرات المراقبة عنها, وإقالة حراسها ومحاكمتهم بتهمة مصادرة مستقبل الوطن, وتعطيل التاريخ.

و هو تاريخ سيبقى خَرِباً ومُعطَّلاً, ومُقاداً بسياط الغوغاء, ما دامت متاريس العقلاء, بل مخاوفهم وعزلتهم قائمة, بحجة التعالي على السائد, والترفع عن منازلة الحمقى, خاصة وأنه تَرفُّعٌ لم يعد يليق بزمن غادر اليوتوبيا (الجنة المزعومة), وخلع التويد الانجليزي, وارتدى بالعدوى القميص والسروال الأفغاني ليس لباساً فقط, بل شعاراً و حياتاً, ونمطاً في التفكير لا يمكن إدخال تعديلات عليه بالتجديد والتقييف, بل بالحذف فقط.

ولا أعني بالحذف السلاح والرصاص, ولا أعني بالقميص والسروال الأفغانيين, الفقه القمعي والتكفيري فقط, بل أعني كل مُبتَذَلٍ ورخيص, ومُنتَهِكٍ لجمال وجلال الحياة, بداية بالأغاني الهابطة, و أناشيد التجييش الميكروباصية, ومروراً بالخيانة التيك آواي, والوطنية على مقاس المصلحة, ونهاية بقطع الكهرباء عن الفقوس للحفاظ على كهرباء الخيار!.

و هو حذف لم يعد خياراً بل واجباً مقدساً علينا جميعاً, نحن الذين نملك القدرة على الطيران مثل غيرنا, ولكننا طوينا أجنحتنا تحت أقدامنا, وقررنا العيش في الوطن أو الموت فيه, ولا عذر لنا بالتواني عن إشهار سيوفنا حتى ولو كانت من ورق, لأنني أؤمن مثل رينيه يشار: أنه ستكون هناك دوماً قطرة ماء أكثر ديمومة من الشمس, دون أن يتزعزع طلوع الشمس.

 

إقرأ أيضاً .. أن تكون أنا!؟ ..

إقرأ أيضاً ..  طعميني وبالبحر ارميني!! ..

 

*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى