ماذا يحدث في المنطقة ؟؟ .. زهر يوسف

يكفي المتابع للأحداث الحاصلة في المنطقة أن يرى حجم الانزياح في المواقف السياسية ليكون أمام مشهد يهندس أرضية تتلاقى فيها الرؤى والمصالح لدولٍ كان حد الاشتباك الناري فيما بينها مستعراً لسنوات في ساحات جغرافية متعددة، ما أفضى إلى تشكيل تحالفاتٍ ومحاور جديدة بعدما أيقنت الدول التي دعمت “الربيع الدامي” أن مرحلة “كسر العظم” قد انتهت، وأن موجة “الربيع” لم تفلح في تحقيق مبتغاها، فالعالم يتغير وبسرعة.
والسؤال الذي بات ملحاً في أذهان الغرب قبل العرب، ماذا يحدث في المنطقة؟
سؤال يُطرح بكثافة نظراً لما حصل ويحصل في مساع لبلورة نظام إقليمي جديد يسهم في تمهيد الطريق إلى النظام الأوسع والأشمل، النظام العالمي الجديد، وتشكل سوريا إحدى الركائز الأساسية التي تحفظ التوازن بين القوى الإقليمية المؤثرة وما جرى ويجري فيها منذ اثني عشر عاماً تأكيدٌ على أهمية مكانتها وموقعها ومحورية دورها.
إذ لا ننطلق من التنجيم أو الافتراض في رصد المتغيرات بل من رحم الواقعية السياسية التي تفرض على دول المنطقة بشكل جدي البحث عن طرائق جديدة مختلفة تماماً عما سيقت سابقاً إن بالقول وإن بالفعل لكثير من الملفات التي كانت شائكة ومعقدة، لا تبدأ بالملف السوري ولا تنتهي بما هو أبعد جغرافياً وما تشهده أوكرانيا من مواجهة روسية – أطلسية محمومة هناك.
حجر الزاوية هنا، ثبات سوريا في قرارها، مواجهة الحرب التي فرضت عليها والعمل على تخطيها حسب الإمكانات المتوافرة بشكل لا يؤثر سلباً على مبدئية رؤيتها الإستراتيجية والتي تنطلق من رتبة السيادة، هذا الموقف أسس لأعوامٍ قِيماَ رئيسية للمحور الداعم لخط دمشق، كموسكو وطهران، وأعطى “التنين الصيني” مساحة أكبر للتحرك على مستوى الإقليم ككل وليس فقط المنطقة العربية، إذ كل يوم تطالعنا بكين بمسعى تصالحي أو مقترح توافقي بين دول كان الاحتراب بينها هو سيد المشهد، وبالتالي لم تعد قبضة صانع القرار الأمريكي كما كانت قبضة محكمة ومتحكمة، في بادرة تقول إن المنطقة بجنوحها صوب التوافقات عكس المشتهى الأمريكي تقول للأخير كش ملك، أو على أقل تقدير تثبت أن واشنطن ليست قدراً، ويمكن تخطيها إذا ما امتلكنا الإرادة لذلك، وإن استغرق الأمر وقتاً، وما قد يتخلل ذلك من تيه دولي، كون إرساء نظام عالمي متعدد الأذرع قد لا يكون طريقه مفروشة بالورود، إلا أنه آت.
وهنا لا نبتعد عن الحقيقة في القول إن ما يطفو على سطح المنطقة، توافق وتناغم في الشكل والمضمون كما في الأهداف والغايات وحتى الرؤى مع التطورات والتغييرات التي سيقت قسراً إلى سوريا خلال أعوام الفوضى والدم، فما كان يخطط لسوريا “الدور والموقع والموقف” أن يتم وضعها جانباً مهمشاً عن صيرورة المتغيرات الإستراتيجية التي تعصف بالمنطقة منذ بداية الألفية الثالثة، وقتها اُعتبرت هذه البداية مناسبة رمزية وتم الاحتفاء بها باعتبارها فرصة لتقديم رؤية إنمائية جديدة ومستدامة تستفيد منها دول العالم، وإذ بالفقر كالسوس ينخر أجساد الدول النامية أكثر، ومعدلات العوز الغذائي وصل مستويات قياسية.
على كل حال، تمكنت سوريا رغم سني الحرب القاسية من تكريس معادلة إقليمية جديدة فرضت بدورها إقراراً عربياً وغربياً بها لجهة ما يرصد اليوم من زيارات تعددت ألوانها بين عربي وإقليمي وأجنبي ما كان ليكون لولا نجاعة ما قامت به سوريا في تفتيت وتبديد ما رُسم لها منذ 2011 حتى الآن، لذا يمكن التأكيد أن المنطقة باتت في صلب معادلة إقليمية ودولية فيها من التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية والمالية الكثير، وسوريا منها حجر زاوية صلب والأمثلة تترى، ومنها المواجهة الروسية – الناتوية التي أخذت مستقراً لها في أوكرانيا، والاتفاق المتسارع التنفيذ بين الرياض وطهران برعاية صينية، والنية السعودية الوضحة في إنهاء الحرب في اليمن”اللاسعيد” ووضع حد لمعانة شعبه، علاوة على ذلك الحراك الصيني المتعدد الاتجاهات وليس أخره زيارة رئيس جمهورية “الكرواسان” ايمانويل ماكرون إلى بكين آملاً من الأخيرة الضغط على روسيا لإسكات فوهات المدافع في أوكرانيا، وإذ بماكرون يذل نفسه كما قالت صحيفة تلغراف البريطانية، وأردفت أن رحلته إلى الصين تظهر أنه لم يتعلم شيئا من أوكرانيا.
هنا الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ لا تخفي طموحها لتصبح القوة المهيمنة في العالم، ومنها قال ماكرون إن “على أوروبا ألا تصبح تابعة لأميركا” ما قُرأ على أن ماكرون تحدث بلغة صينية بحتة.
أضف لما سبق موضوع المد والجزر في ملف الاتفاق النووي الإيراني، والدور الذي تلعبه دولة الإمارات العربية المتحدة في هندسة واقع من المشتركات، ركيزته سوريا، والرغبة السعودية بالتقارب مع دمشق وما سربته الصحافة من أن عيد الفطر القادم سيحمل مفاجآت في هذا الإطار، جُلّ هذه العناوين الرئيسة تحدث على مسمع ومرأى صانع القرار الأمريكي الممتعض مما يجري على رقعة الشطرنج العالمية التي تشهد على أكثر من نقلة قد تكون قاتلة أو مقيدة لتحركاته.
وضمن ذلك فقد بات واضحاً أن جميع القوى الإقليمية والدولية بدأت تبتعد بقرارها عن السياسات الأمريكية، الأمر الذي جعل من سورية كفة من عيار الذهب يرغب كثر في التقرب منها، كتركيا التي تبحث في جوارها والإقليم عن تحالفات تتشكل لتحجز لنفسها مكاناً وعبر البوابة السورية أيضاً، غير أن دمشق بلا شك تعي جيداً أن المرامي التركية تنطلق من زاوية ضيقة جداً، آلا وهي الورقة الانتخابية التي ينظر إليها اردوغان كمكسب ممنوع التفريط به، وبالتالي ليس في ذهنية دمشق بتاتاً تقديم الهدايا المجانية دون أن تنفذ أنقرة جملة مطالب أرادتها دمشق، وما إرجاء جولة “الرباعية” إلى بداية شهر أبريل أيار المقبل إلا دليل على سبر ما يجول في بواطن السياسة التركية، كون أردوغان يبحث هذه الأيام عن مقعد استراتيجي لتحقيق غايات في نفسه لا تبدأ بالداخل التركي ولا تنتهي بالطموحات الإقليمية والدولية، لذا نراه يصوب هذه الأيام على الانقسام داخل جسد المعارضة التركية كنقطة ضعف يحاول استغلالها.
وعليه .. يبدو جلياً من حراك المنطقة أن الأرضية تتهيأ لتفاهمات ببعدها الإقليمي على قاعدة رابح رابح وتنطلق من نقطة ارتكاز محددة هي سوريا التي تكثر فيها الزيارات والاتصالات وقد لا يكون بعيداً عنها التوجهات الدولية، ما يؤشر على أن سوريا الموقع والموقف والدور والثقل تعود بثبات إلى مركز التوازن الإقليمي، وتتموضع في ركنها المؤثر في كثير من ملفات الشرق الأوسط الذي أريد له أن يكون جديداً كما اشتهت كونداليزا رايس، زمن بشرت به عام 2006 وإذ به جديد بإرادة دوله وشعوبه .. وعلينا الانتظار.
إقرأ أيضاً .. بعد موسكو، الأسد في الإمارات .. أي جديد؟.
إقرأ أيضاً .. قراءة في زيارة الوزير المقداد إلى مصر ..
إعلامية وكاتبة – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحاتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter