تشبه عمتي سهيلة فلسطين، في صمودها وقوّتها ومحبتها الكبيرة للعرب والمسلمين، فقلبها عامر بالحب والخير، ولسانها لا يقول إلا الخير، ولا يذكر الغائبين إلا بالخير، وقدماها لم تعرفا السير إلا بالحق وبالخير..
حين زرتها في بيتها بالقدس كانت قد انتهت من الوضوء، واستندت إلى “الووكر” الذي يساعدها على الوقوف والمشي لتصل إلى مقعدها المخصص لها استعدادًا لأداء الصلاة.. لم تكن تعلم بقدومي، ففاجئتها وأقبلت عليها وقبّلتها.
– سألتني بصوتها الدافئ: مين انتي؟
– أجبتها: أنا فداء يا عمتي.
– ردّت باستغراب: بنت أخي فضل؟! – قلت نعم.. فحضنتني، وأجهشنا بالبكاء.
– ثم قالت: كيف حالك؟ كيف أخي فضل؟ والله إله يومين على بالي وبحلم فيه.. أخي منيح يا عمتي؟
– قلت: نعم يا عمتي منيح وبسلم عليكي.. ثم انهمر لسانها بالدعاء لي ولوالدي ولأخوتي جميعهم.
جلسنا أنا وعمتي وابنها عدنان وحفيدها عبد الله وعائلته الودودة الكريمة، وابنة عمي وابنة أخي في جلسة يملؤها دفء الأهل وحنان العمات الأمهات.. فيما كانت عمتي تسأل عن الجميع وتدعو لهم بالخير والعافية.
لم يقطع حديثنا العائلي سوى ورود أنباءٍ عن وقوع عملية بطولية في “النبي يعقوب”، وكوني زائرة ولا أعرف المناطق في بلدي فلسطين فقد أخبروني أن العملية قريبة من بيت حنينا، حيث تقيم عمتي سهيلة.. بدأ الحماس يدب في أوصال الجالسين، وبدأ عدّ القتلى وكأننا في مباراة ما بين الأمس واليوم.. ففي الليلة السابقة داهمت القوات الإسرا.. ئيلية المحتلة مخيم جنين وارتكبت مجزرة مروّعة هناك، وها هم أبطال فلسطين اليوم ينتقمون ويردون لها الصاع صاعين..
فرحت عمتي بوقوع العملية، وطالبتنا بقراءة شريط الأخبار أول بأول، فبصرها لم يعد يسعفها على الرؤية، لكن قلبها ما زال ينبض وطنية وحبًا لفلسطين وأبطالها.
عمتي سهيلة معروفة بقوتها ونضالها ضد المحتل الصهيوني، ولها باعٌ في مقارعة اليهود من أجل استعادة جثمان عمي الشهيد علي طه من السلطات الإسرا.. ئيلية، وقد كان لها النصر واستطاعت تخليص جثمانه منهم ودفنته في الخليل، بعد أن كان هذا المطلب مستحيلًا.. وها هي بعد كل هذا العمر ورغم كل معاهدات السلام التي وقعت مع العدو لم تعترف سوى بالعمل الوطني والشهادة كوسيلة لاسترداد الحقوق المسلوبة..
لقد بدأ العد التصاعدي لأعداد القتلى في عملية “النبي يعقوب”، وكلما ازداد العدد رفعت عمتي صحنًا من صحون الضيافة التي على الطاولة أمامها، وقالت وهي تهلل فرحًا: تحلو يا عمتي، حلوان العملية ثم تضحك وترفع يديها بالدعاء إلى الله أن ينصر المقاومة ويهزم الاحتلال وأن يمد في عمرها لتشهد على هذا اليوم بعينيها.. كانت تفعل ذلك فيما كنت أتأمل قلادة ذهبية جميلة ترتديها، قالت لي بأنها لم تخلعها منذ 50 عاما، وتحمل على وجهها صورة الشهيد البطل علي طه، قائد عملية مطار اللد عام 1972 وعلى الوجه الآخر صورة ولدها المناضل عدنان الذي قضى 10 أعوام في سجون الاحتلال.. قالت لنا عمتي: ناموا عندي الليلة يا عمتي.. نحتفل بالعملية، فيما بدأت بتقسيم الحاضرين أين سينام كلّ منا.. لكن المبيت لم يكن ممكنًا، وعندما هدأت الأمور قليلًا قررنا الخروج من طريق قيل لنا بأنه آمن نسبيًا، غير أن رائحة غاز الفلفل رائحته كانت تعمّ المنطقة برمتها.. ودعتنا عمتي بالقبلات والدعوات بأن يحمينا الله ويحمي فلسطين.. عندما خرجنا بسرعة ووصلنا إلى بيت عمي طاهر في جبل الطور، وبعد وصولنا بعشر دقائق قيل لنا بأن المنطقة أغلقت من قبل جنود الاحتلال فمنفذ العملية، الشهيد خيري علقم، تبين بأنه من جبل الطور..
اليوم عدت إلى عمان وتمنيت لو أني بتّ تلك الليلة في بيت عمتي سهيلة، وتمنيت لو أني لم أغادر حبيبتي فلسطين.
.
.
*كاتبة صحافية- الاردن
.
صفحاتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter